تمتلك الدكتورة منال متولى أستاذ الاقتصاد ومدير مركز البحوث والدراسات الاقتصادية والمالية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة رؤية مغايرة لكل ما تروجه وسائل الإعلام حول التراجع الحاد الذى يشهده الاحتياطى النقدى الأجنبى فى البنك المركزى، فهى لا تولى أدنى اهتمام بالدعاوى التى تذهب إلى أن مصر ستفلس قريبا، لأنها تنظر إلى المسألة برؤية مغايرة.. رؤية الجزء المملوء من الكوب وليس العكس. فى حوارها ل «أكتوبر» عابت د. منال متولى على الرسالة الإعلامية التى تتجاهل الجانب الاقتصادى فى الأزمة التى يمر بها المجتمع المصرى عقب ثورة 25 يناير، لافتة إلى أن غالبية وسائل الاعلام تركز على أمور السياسة من انتخابات وصراعات بين التيارات والأحزاب بدون التعرض للقضايا الاقتصادية، وهذا بدوره يصب فى غير صالح المجتمع، لأنه لن تستقيم الأمور بدون تركيز الاهتمام على قضايا الاقتصاد. وأوضحت أنه من الضرورى أن يتم التركيز الآن على قضية زيادة الانتاج، لما تمثله هذه الزيادة من حلول لكل الأزمات، فزيادة الانتاج تعنى توفير المزيد من فرص العمل وزيادة الإيرادات العامة، مؤكدة أن الاقتراض ليس عيبا فى ذاته بل هو من آليات تدبير موارد الدولة لاستخدامها فى الوفاء بالتزاماتها. *بداية كيف ترين وضع الاقتصاد المصرى عقب ثورة 25 يناير؟ **المشكلة الاقتصادية التى يعيشها المجتمع المصرى ليست نتيجة لأحداث ثورة 25 يناير، التى قامت لمحاربة الظلم وتحقيق أهداف سامية وضحت من شعارات الثوار وهى (عيش - حرية - كرامة انسانية)، بل المشكلة نتجت عن أن الذين تولوا المسئولية لم تتوافر لديهم الحلول المطلوبة للمشاكل سواء الداخلية أو الخارجية، وعلى الرغم من ذلك لم يسارعوا إلى الاستعانة بذوى الخبرة لوضع رؤية مستقبلية لما يجب تنفيذه تجاه الاستثمار والمستثمرين - القطاع الخاص - الفقر والسياسة الاجتماعية، إضافة الى المشاكل العارضة التى تواجه المجتمع. *ماذا عن سبيل الخروج الآمن من الأزمة؟ **الخروج الآمن من الوضع الاقتصادى الحالى يتطلب وجود تصور جاد لسياسة اقتصادية كلية يتم تطبيقها خلال الفترة المقبلة، على أن تستهدف هذه السياسة 5 أمور، أولها، تحقيق معدل نمو مرتفع بما يعنيه ذلك من زيادة الناتج المحلى الإجمالى، مما يحقق زيادة الإيرادات العامة للدولة، وثانيها، إعادة الثقة إلى كافة الفاعلين فى السوق، لكى يترتب على ذلك زيادة الاستثمارات الأجنبية والمحلية وما يترتب على ذلك من توفير المزيد من فرص العمل وزيادة معدلات التشغيل فى الاقتصاد، وثالثها، الوصول إلى صياغة سياسة اجتماعية متكاملة يستفيد منها المجتمع بكافة أطيافه، حتى يكون التفاعل الجاد الذى يرتب بدوره دفع عجلة الانتاج بشكل عام، ورابعها، دفع عجلة الانتاج فى الاقتصاد لتوفير المزيد من فرص العمل، وذلك بتقديم كافة صور المساندة للمنتجين بكافة القطاعات والسعى لخلق قنوات اتصال وتعاون بين الكبير والمتوسط والصغير من هذه المشروعات، وأخيرا، إعادة النظر فى مكونات العقد الاجتماعي، الذى يقوم فى الأساس بين 3 أطراف وهى القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني. *ما المقصود بإعادة النظر فى مكونات العقد الاجتماعى؟ **عقب الثورة اضطربت العلاقة بين أطراف العقد الاجتماعى، فالقطاع الخاص أصبح متهما بالانتهازية فيما تتبارى وسائل الإعلام للنتشكيك فى المجتمع المدنى، ذلك كله فى الوقت الذى لن تستقيم فيه الأمور إلا بإعادة الوئام إلى العلاقة بين هذه المكونات الثلاثة، وهذا يستوجب من الحكومة الإسراع فى تفعيل قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص بناء عن دراسة جادة للوقوف على الصيغة المثلى للمشاركة ومشروعات البنية التحتية التى يمكن أن يتم البدء فى تفعيل القانون فيها، لأن القطاع الحكومى لن يتمكن من النهوض بالاقتصاد بدون مشاركة جادة من القطاع الخاص. *إذا فالاستقرار مرتبط بوجود رؤية شاملة؟ **لابد من وجود تصور شامل يتم طرحه أمام المستثمرين لتحفيزهم لضخ أموالهم فى الاقتصاد المحلى، فالمستثمر القادم إلى مصر يطرح تساؤلات عن الدولة واتجاهها هل يسارى - ليبرالى - إسلامى، ومن الضرورى أن تضع الدول رؤية شاملة لها يسير عليها الوزير فى وزارته حتى لا يسير كل وزير فى اتجاه مخالف لغيره من الوزراء، فمثلا قضية كارتفاع سعر الفائدة على الودائع وتفاقم الدين المحلى تعنى الاتجاه الى الاقتراض، مما يستلزم وضع تصور للاقتراض والمبلغ المطلوب والمشروعات المعدة للاستثمار فيها أو استكمالها وأهميتها فى الوقت الحالى وفرص العمل الجديدة التى توفرها للشباب مع ضخ إنتاج لسلع مطلوبة والجميع يعلم أن الاقتراض «شر لابد منه» والمقترض ليس لديه رفاهية الاختيار، وأيضا مطلوب على الدولة تحديد السياسة الاجتماعية المطلوبة وكيفية مساعدة الفقراء فى المرحلة المقبلة، وايجاد فرص عمل جديدة لمواجهة مشكلة الفقر. *هل حقا يطارد شبح الافلاس مصر؟ **الحديث عن إفلاس مصر أمر لا ينطلق من مبررات منطقية، لأن الدولة تفلس عندما تفقد القدرة على الوفاء بما عليها من التزامات، والاقتصاد المصرى لم يصل إلى هذا الحد من التأزم، لكن لا يعنى ذلك أن الأمور كلها تمام.. بل هناك مشكلات يعانى منها الاقتصاد المصرى تتعلق فى جانب كبير منها بتراجع الإيرادات العامة وزيادة النفقات للدرجة التى دفعت الدولة للاعتماد على الاحتياط النقدى المتوافر لديها لتلبية الحاجات المتزايدة مما افقدها قرابة 45% من الاحتياطى، ودعا البعض للقول باقتراب مصر من الإفلاس، خاصة أن الاحتياطى النقدى هو إجمالى ما يحتفظ به البنك المركزى من نقد أجنبى للالتجاء إليه فى تمويل الواردات الأساسية وحد الأمان 6 شهور، فضلا عن إمكانية استخدام هذا الاحتياطى فى تحقيق الاستقرار فى سوق الصرف. *لكن الاحتياطى النقدى المتوافر لدى البنك المركزى الآن يقدر بنحو 20 مليار دولار لا يكفى لتمويل الواردات الأساسية لفترة الأمان وهى 6 شهور. **الأمر لا يقاس على هذه الشاكلة، لأننا لا يمكن أن نجزم الآن بالحجم الحقيقى للاحتياط النقدى المتوافر لدى البنك المركزي، وهل يتضمن الرقم المعلن عنه القيمة المجمدة لخدمة الدين الخارجى؟ لأنه إذا كان يتضمن هذا البند وهو يتضمنه وفقا لمعلوماتى، فإن المسألة ستكون أكثر تعقيدا، لكن ذلك لا يعنى الإفلاس أيضا بل المسألة كلها، كمن يمتلك سيارة أجرة ويدفع لها قسطا شهريا، ولأسباب عديدة لا توفر السيارة فائضا ماليا يسمح بدفع القسط فهل يعنى ذلك أن مالكها سيعلن إفلاسه بالضرورة؟ بل يمكن أن يفكر المالك فى حلول أخرى مثل زيادة ساعات عملها أو توفير نفقاتها أو الاستدانة بما لا يترتب عليه كوارث مالية لهذا المالك. *ماذا عن الحلول المتاحة للهروب من مأزق الإفلاس؟ **يقتضى ذلك اتخاذ كافة التدابير الممكنة لدعم القطاعات الاقتصادية التى تساهم فى زيادة النقد الأجنبى مثل السياحة وزيادة الصادارات أو تقليل الوارادات من السلع الأساسية، وأخيرا تحويلات العاملين فى الخارج، واعتقد أن السبيل الأنسب الآن هو توفير المزيد من المساندة للقطاع السياحى لاستعادة عافيته مرة أخرى فضلا عن زيادة الإنتاج لزيادة الصادرات، وفى ذات الوقت إعادة النظر فى هيكل الواردات من السلع الرئيسية لتوفير بدائل محلية لهذه السلع، فإنه لا يوجد ما يحول دون تقليل الاعتماد على الاستيراد لتوفير سلع مثل زيت الطعام والسكر والقمح بتوفير كميات أكبر محليا من هذه السلع. *ماذا عن قدرة البنك المركزى على التدخل لمواجهة نزيف الاحتياطى النقدى؟ **قرارات البنك المركزى سواء المتعلقة بضخ المزيد من الدولارات أو رفع سعر الفائدة هى حلول قصيرة المدى لا توفر حلولا دائمة لنزيف الاحتياطى، خاصة أنه من الممكن أن يكون لمثل هذه القرارات آثار سلبية، فرفع سعر الفائدة يزيد بدوره العبء على الجهاز المصرفى من خلال رفعه لسعر فائدة الاقتراض مما يعد معوقا للاقتراض من اجل الاستثمار، وبالتالى تظهر مشكلة كيف تمنح البنوك العوائد للمودعين بالسعر الذى حددته وأعلنته، فضلا عن أن رفع سعر الفائدة على الودائع بالجنية لا تكفى لاقناع المودعين لتحويل ودائعهم الدولارية إلى وديعة بالجنيه، لأن المودعين يجدون أن الزيادة المحققة لهم نتيجة زيادة قيمة الدولار فى مقابل الجنيه أكبر من تلك المحققة نتيجة تحويل الودائع للجنيه، فالوضع أصبح لا يحتمل التأخير. *ماذا عن سيناريوهات النهوض بالاقتصاد المصرى؟ **الاقتصاد المصرى يمتلك ميزات عديدة غير مستغلة يمكن أن يتم التنقيب عنها لإعادة اكتشافها، لكن ذلك يحتاج إلى قرارات جريئة وخطة عمل جادة لاستغلال الفرص الكامنة لزيادة الانتاجية، فالسياحة ينتظرها مستقبل واعد شريطة أن يستتب الأمن، والثروة التعدينية يمكن أن تساهم فى الارتقاء بالمجتمع بعد تعديل قانون الثروة المعدنية بما يعزز مساهمة هذا القطاع فى الاقتصاد، فضلا عن ذلك يمكن تعزيز قدرات التعاونيات لممارسة دورها فى القطاع الزراعى بما يساهم فى زيادة الإنتاجية، فضلا عن ذلك يمكن أن تجذب مصر قدر هائل من الاستثمارات الأجنبية فى حال تهيئة مناخ الاستثمار باعادة النظر فى المنظومة التشريعية الحاكمة لهذا المناخ، كما نحتاج أيضا إعادة النظر فى الآلية التى تعمل بها الصناديق الخاصة.