عشت فى أم القرى نحو عقد من الزمان.. فأصابت من قلبى الكثير.. وتركت فى نفسى حبا عظيما وذكريات خالدة.. ما حييت.. وقد كنت أحلم بالكعبة صغيرا.. وشهدت المحمل الذى كان يخترق موكبه حى الدرب الأحمر العريق.. حيث كان الأهالى يتجمعون لمشاهدة هذه المناسبة السنوية الرائعة! المحمل وهو فى طريقه إلى الأراضى الحجازية.. وهذا الموكب المهيب كان يضم كسوة الكعبة مع البعثة الرسمية المصرية للحج.. وهى التى كانت تقوم بتغيير الرداء القديم وتلبسها حُلة بهية جديدة. وقد لا يعلم الكثيرون من أبنائنا والأجيال الشابة أن دار كسوة الكعبة موجودة فى حى الخرنفش فى قاهرة المعز لدين الله.. هذه الدار كانت تقوم بإعداد وصناعة الكسوة ليس للكعبة فقط.. إنما كسوة الحجرة النبوية.. حيث يسكن حبيبنا الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.. إضافة إلى ستار باب الكعبة وكسوة مقام إبراهيم عليه السلام وكيس يحفظ مفتاح الكعبة. فى ذاك العهد غير البعيد كانت لمصر مكانة- وستعود بمشيئة الله- مكانتها الرائدة إسلاميا وعربيا فحبل الود لم ولن ينقطع مع إخواننا وأشقائنا فى بلاد الإسلام كافة.. وما قدمته مصر هو من فضل الله علينا.. وعلى الناس أجمعين.. ومن هنا نتذكر فضيلة التراحم والتكافل التى دعانا إليها الإسلام فما قدمناه لأشقائنا بالأمس هو من فضل الله.. وكذلك ما يقدمونه اليوم. بهذا المفهوم الإسلامى يمكن أن نمحو الفقر والجهل من عالمنا الإسلامى.. بل من العالم أجمع.. فالمسلمون ليسوا فقراء.. بل أغناهم الله بأعظم النعم والثروات.. (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) وشكر النعم صيانتها ورعايتها.. وإخراج زكاتها.. وهذا حق الله علينا، ولو خرجت الزكاة من الأغنياء إلى الفقراء لما وجدنا عُريانا ولا جائعا.. ولا مسكينا.. لن نرى الصومال.. ولا غيرها من بلاد المسلمين التى تكتوى بنيران الفرقة والاقتتال المصطنع. وحتى لا نبعد كثيرا عن مهوى القلوب.. أم القرى.. نذهب إلى بيت الله الحرام.. ويحمل اسمه معنى تحريم القتال فيه.. وياليتنا ندرك هذا المعنى الرفيع (يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به..) إلى آخر الآية الكريمة فى سورة «البقرة» فالقتال محّرم فى هذا البلد الحرام.. وفى الأشهر الحرم. وعندما شرع الإسلام هذا كان يرسى قاعدة راسخة للتعامل بين البشر، فليس المقصود تحريم القتال فى مكة فقط.. أو فى أشهر معينة.. بل المقصود أن يعيش الناس فى سلام ووئام. ورغم أن التاريخ حافل بالحروب والصراعات والمآسى التى صنعها البشر بسوء سلوكهم ونفوسهم.. فإن الإنسان- بصفة عامة- يميل إلى السلام والسلم.. وينشد الراحة والهدوء والسكينة.. وقلة هم الذين يصنعون الشر ويفجرون الحروب ويؤججون نيرانها. وخلال السنوات التى عشتها فى مكةالمكرمة.. شهدت وقائع كثيرة وقابلت العديد من الشخصيات والمسلمين.. البسطاء.. وغير البسطاء.. وكلنا عند الله سواء، ولكن هذه التجربة كشفت لى مدى جاذبية أم القرى.. وتزداد الجاذبية كلما اقتربت من البيت الحرام.. حتى تصل إلى الكعبة المشرفة. وكما أن الكعبة هى محور الكرة الأرضية.. فإنها مهوى قلوب البشر.. فعلا.. ويتجلى ذلك الحب والعشق فى شهر رمضان وتحديدا فى العشر الأواخر منه.. وكذلك خلال موسم الحج، حيث يتجمع الملايين الآن، وخلال لقاءاتى- سابقا وحاليا- فى أم القرى اكتشفت مختلف الأنواع والألوان والأعراق والأجناس.. الكل يتقارب.. يتفاعل.. يتحاب.. فتزول الفوراق.. ونبدو جميعا.. روحا واحدة.. تهيم فى حب الله. رأيت المسلمين من فلسطين والفلبين وأمريكا والسودان.. إلخ البلدان.. تحاورت معهم.. تعرفت على مشاكلهم.. وقد عرفونى أيضا كما عرفتهم.. وهذا هو سر عظمة الإسلام (التعارف) وسر يوم (عرفة) التعارف والمعرفة.. فلا يوجد مكان يجمع المسلمين مثل هذا الصعيد المبارك.. والتعارف هنا المقصود منه أن نتدارس مشاكلنا.. ونعرف همومنا.. والأهم من ذلك أن نضع حلولا لها. والأمة الإسلامية تمتلك قدرات هائلة تستطيع بها حل مشاكلها.. بل الإسهام فى استقرار العالم وصنع نهضة. إذا.. فالكعبة مهوى القلوب ومحور الأرض وفوقها عرش الرحمن.. كل هذا يجعلها (مثابة للناس وأمنا) أى أنها لا تجتذب المسلمين إليها فقط مثل المغناطيس الروحانى، ولكنها توفر لهم الأمن وتمنح لهم الأمان.. هذه النعمة الرائعة التى لا يقدرها إلا من يفتقدها.. فعندما نشاهد البلطجة وأعمال السلب والنهب وانتهاك الحرمات نتذكر قول رسولنا الأكرم (ومن دخل بيتى فهو آمن). نعم.. نحن نتطلع للأمن والأمان.. فى كل مكان.. وقد يكون حلم الإنسان.. أى إنسان.. أن يعيش ولو مجرد ساعة آمنا على نفسه وأهله ووطنه.. ولعل هؤلاء البلطجية.. وكل صناع الشر يدركون أنهم لا يؤذون الآخرين فقط.. بل يؤذون أنفسهم أولا.. (ولا تكونوا كالذين ظلموا أنفسهم).. فعندما أرتكب خطيئة الظلم.. فإنها تصيبنى قبل غيرى.. وعندما أحرم الآخرين من الأمان.. فإننى أقر ذات القاعدة لنفسى وأهلى أيضا. *** ولعلنا نتذكر بعض الوقائع التاريخية المشهودة للكعبة المشرفة.. ومن أبرزها مشاركة الرسول الأكرم فى بنائها بذكائه وعبقريته.. قبل أن يبعثه الله نبيا ورسولا للعالمين.. حدث هذا فى العام الثامن قبل الهجرة.. عندما قامت قريش ببناء الكعبة، وقد اختلفوا على أية قبيلة سيكون لها شرف إعادة الحجر الأسود إلى موضعه.. واتفقوا على أنهم سيأخذون برأى أول من يدخل الكعبة آنذاك، وقد كان رسولنا الأكرم الذى قدم الحل المشهور (وضع الحجر الأسود فى رداء تحمل كل قبيلة أحد أطرافه) ومقادير الله هى التى جعلت الرسول يحظى بهذا الشرف.. كما حظيت قريش- والعالم بأسره- ببعثة النبى الذى قدم الرأى السديد والنموذج الفريد من القيادة ومواجهة المشاكل والأزمات.. وصنع أمة قادت البشرية بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكنها اليوم حادت عن الطريق.. وضلت معالمه. وعندما نتذكر هذه الواقعة.. فنحن لا نشغل أوقاتنا أو نسرّى عن أنفسنا.. بل يجب أن تكون لنا عبرة وموعظة.. ونستعيد سيرة الرسول الأكرم.. وكيف كان يدير شئون أمته على أعلى المستويات نعم إنه المعصوم صلى الله عليه وسلم، وهو وحى يوحى إليه.. ولكنه فى ذات الوقت قدوتنا ورائدنا. وهادينا وهادى البشر أجمعين. وبمناسبة بناء الكعبة.. فيجب أن نشير إلى أنه أعيد بناؤها نحو 12 مرة عبر التاريخ.. ويقال إن الملائكة هم أول من وضعوا قواعدها.. ثم أعيد بناؤها فى عهود: آدم، وشيت ابن آدم، وإبراهيم وإسماعيل، والعمالقة وجُرهُم، وقصى بن كلاب، وقريش، وعبد الله بن الزبير، والحجاج ابن يوسف الثقفى، وأخيرا السلطان العثمانى مراد الرابع (عام 1040ه 1630 ميلادية) عندما اجتاح مكةالمكرمة من سيل جارف دمر كل شىء. ثم شهد العهد السعودى عمارة كبرى للحرمين الشريفين كانت ومازالت مستمرة حتى اليوم. وقد لا يعلم الكثيرون أن الكعبة اليوم كانت مختلفة عن كعبة الأمس.. كانت دون سقف.. وكان بابها بمستوى الأرض، ثم جاء قوم تُبّع فصنعوا لها سقفا.. وجاء عبد المطلب فصنع لها بابا حديديا مطليا بالذهب.. لأول مرة. والباب الذى نراه اليوم أهداه الملك خالد بن عبدالعزيز ويزن 280 كيلو جراما من الذهب عيار 99.99، كما يدخل السلك الفضى المطلى بالذهب فى حزام الكعبة وتطريز آياتها القرآنية. أتذكر أننى خلال التسعينيات من القرن الماضى.. شهدت عمارة الكعبة.. وقد كانت محاطة بسور خشبى على مدى أشهر.. وعندما كنت أزورها ينتابى شعور بالشوق والحنين إلى جدارها الأصلى حتى اكتمل بناؤها وعادت الجدران، كما كانت، وعندما شاهدتها مكتملة البناء كنت مثل طفل صغير يشتاق إلى قلب أمه وحضنها الدافئ فأسرعت إليها أقبّلها والتصق بها واحتضنها.. كانت لحظة خالدة فى ذكراتى كما ستظل الكعبة وأم القرى.. خالدة فى قلوب كافة المسلمين إلى يوم الدين.