احتفلت مدينة برلين فى التاسع من نوفمبر بمرور 22 عاما على هدم جدار برلين، الذى اشتهرت به واشتهر بها كأحد أكبر المآسى الإنسانية الناجمة عن الحروب! لهذا وعلى الرغم من انتهاء الحرب الباردة، ورغم اتحاد الألمانيتين ، ورغم انصهار كل أوروبا فى اتحاد جغرافى واقتصادى واحد ، حتى باتت كلها مثل مدينة كبيرة مترامية الأحياء... تظل مدينة برلين الألمانية ، لها تفردها التاريخى ، فهى واحدة من أهم وأشهر وأعرق المدن الأوروبية قاطبة، حيث رائحة المعاناة والشقاء والدمار الذى عاشته تلك المدينة طوال فترة الحرب العالمية الثانية التى سويت معظمها بالأرض، ثم الحرب الباردة التى قسمت تلك المدينة الواحدة إلى أربعة أقسام يفصل بينها سور كان من يفكر فى تسلقه يجد الموت فى انتظاره! لهذه الأسباب كان لبرلين خصوصيتها بين كل المدن الأوروبية، ولأنها استطاعت أن تجتاز كل تلك الصعاب وغيرها ظلت نموذجا للصمود الإنسانى وللإرادة التى قهرت الحرب والموت معا، لتلحق بأحداث العالم ومباهجه من علم وثقافة وفن وسياحة! فهذه المدينة الأوروبية الجميلة التى تقع فى شرقى ألمانيا، قد دكت مبانيها وتحولت معظم أرجائها إلى ركام، وعاش أهلها إما فى المخابئ وإما فى الطرقات، أثناء الحرب العالمية الثانية، وربما كان ذلك التركيز على ضرب برلين بسبب ما شهدته فى عهد هتلر من اعتقالات لليهود والشيوعيين والشواذ، أو لأنها كانت درة ألمانيا، حيث أقيمت بها دورة الألعاب الأوليمبية عام 1939، أو لأن هتلر أراد أن يجعل منها نموذجا لتقدم الحضارة الألمانية! ثم اكتملت مأساة المدينة حين تم تقسيمها فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلى أربعة أقسام بين روسياوالولاياتالمتحدة وانجلترا وفرنسا، وهى الدول التى انتصرت فى الحرب، وقد تابع العالم فى تلك الأثناء الأحداث والحكايات التى خلدها كل من الأدب والسينما عن محاولات الهروب من ألمانياالشرقية إلى ألمانياالغربية بعد أن قسمت الحرب المدينة والأسرة الواحدة وحتى الجيران! بالنسبة لزائرى برلين لا يستطيعون التمييز بين ما يطلق عليه برلينالشرقيةوبرلينالغربية، خصوصا بعد أن ذابت المدينة كلها، وانهار جدارها الشهير فى التاسع من نوفمبر عام 1989، لتبقى عدة أمتار منه تشكل مزاراً للسائحين لمشاهدة كيف كان أهل المدينة الواحدة معزولين كأنهم فى دولتين بينهما عداء! نقطة تشارلى استطاع الألمان أن يستغلوا السور استغلالا رائعا، فجعلوا منه مزارا ومتحفا يحكى تاريخ المدينة بالصور وبالمعلومات، حتى أن زائر برلين لا يمكنه أن يمر بها دون أن يشاهد سور برلين ويتأثر كثيرا لما يجسده من انتهاك للحرية والآدمية، بل إن كثيراً من السائحين يقصدونها تحديدا لهذا الغرض! صحيح أن السور قد تهدم ولم يبق منه سوى أمتار، وصحيح أن المعالم القديمة حوله قد تغيرت، وبعد أن كان على جانبيه مساحات فسيحة، شيدت المبانى الحديثة وشقت الطرق والشوارع، ولكن الألمان تنبهوا لأهمية معلمهم الشهير، فوضعوا وحدات من حجر البازلت الأحمر بطول السور، أحيانا يسير إلى جوار الرصيف، وأحيانا أخرى يقطع الشارع بالعرض، حتى يمكن لأى زائر تخيل مكانه وحدوده، لكن المدينة كلها امتزجت وأصبحت وحدة واحدة ولا يميز شرقها عن غربها سوى أهلها! الشىء الطريف أن السور لم يكن وحده مكان الجذب السياحى، لكن هناك ما يطلق عليه «نقطة شارلى» أو Checkpoint Charlie وهذا المكان بالفعل على الرغم من كونه من المفترض أن يثير الشجن بسبب تاريخه، إلا أنه – فى رأيى - أصبح يثير الضحك فى حاضره، فهو عبارة عن كشك صفت أمامه أجوال من الرمال، ويقف أمامه اثنان من الجنود يرتديان الملابس العسكرية الأمريكية وبيد كل منهما علم الولاياتالمتحدة، وهما يدعوان المارة من السائحين لالتقاط الصور التذكارية معهما مقابل 2 يورو، وإلى جواره تماما أحد مطاعم الوجبات السريعة الأمريكية وهو ماكدونالدز، يؤكد الوجود الأمريكى حتى لو لم يكن عسكريا! تحول هذا المكان لوسيلة للارتزاق، بعد أن كان يمثل نقطة تبادل الأسرى والجواسيس، فتباع به الهدايا التذكارية والنياشين القديمة، والملابس العسكرية القديمة، بل وبعض قطع من السور القديم، إضافة إلى متحف أطلق عليه نفس الاسم! لكن لم يكن سور برلين ونقطة تشارلى هما الوسيلة الوحيدة للارتزاق، وإن كان لهما ما يؤكدهما فى التاريخ، لكن الشىء الغريب هو ذلك النصب التذكارى الذى أقامه الألمان فى قلب عاصمتهم الجديدة القديمة، ليخلدوا فيه ذكرى المحرقة أو الهولوكوست، وقد ظل اليهود يضغطون على المجتمع الألمانى، لمدة 17 عاما، حتى نجحوا فى إقامته! لكن الحقيقة أنه ليس بنصب تذكارى، لكنه شىء مقبض كئيب، فلا?أعتقد أن أحدا رأى نصبا على مساحة 20 ألف متر مربع! وهو يحتل هذه المساحة فى قلب المدينة بين مجموعة من أبرز المعالم التى يتردد عليها أى زائر لبرلين، فهو يقع بين مبنى البرلمان الرايخستاج وملاصق تماما للسفارة الأمريكية، ربما ليكون فى حمايتها، وعلى مقربة من بوابة براندنبرج أو بوابة برلين! وفيما يبدو أنه قصد أن يكون على هذا الشكل الكئيب، حتى يكون وسيلة جيدة لابتزاز الألمان! فهو على شكل منصات خرسانية رمادية اللون يصل عددها إلى 2700 منصة، أو بمعنى أدق هى على شكل ساحة للمقابر، وهو ما قصد منها، وتتخلل هذه المنصات ممرات ضيقة كتبت عليها، المهم أنه على الرغم من تلك الكآبة التى يخلفها هذا النصب، فعلى جانب آخر برلين زاخرة بالمعالم التاريخية الهائلة، لكنها أيضا مركز ثقافى وفنى هائل، تجمع الكثير من المهرجانات الفنية لعل أبرزها مهرجان السينما الذى يعرض فيه حوالى 400 فيلم من 120 دولة وتباع فى أكثر من مأتى ألف تذكرة! هذا غير مهرجان الثقافات ومهرجان الموسيقى ومهرجان برلين للجاز وما تتمتع به برلين من ثمانى فرق للأوركسترا السيمفونى! هذا الجو الفنى والثقافى البديع، انعكس بالتالى على زائرى برلين، وعلى قاطنيها سواء من أهلها أو المقيمين، وهو ما انعكس أيضا على المكتب الثقافى المصرى فى برلين، الذى يحاول أن يكون جسرا بين الثقافتين المصرية والألمانية! صحيح أن مهمته ليست سهلة، لكن ما يقلل من صعوبتها أنها تلقى قبولا بين الكثير من المصريين التواقين إلى بلدهم، ومن الألمان الذين يعشقون مصر! محمد عبده فى قلب برلين وعلى بعد خطوات من سورها الشهير، وفى بناية حديثة جدا فى شارع شارلتون، فى الدور الرابع منها يقع المركز الثقافى المصرى، الذى لا يتوقف نشاطه كما قال الدكتور ممدوح الدماطى المستشار الثقافى المصرى على رعاية البعثة التعليمية للطلاب المصريين فى ألمانيا، والتى تبلغ 400 مبعوثا فى مجالات شتى منها الطب والهندسة والعلوم الإنسانية كالفلسفة وعلم النفس والاجتماع والتاريخ واللغات، لكنها تحرص أيضا على التواصل الإنسانى والاجتماعى بين هؤلاء الطلبة خاصة والمصريين فى ألمانيا عامة، وبين بلدهم الأم من ناحية، وبين الألمان خاصة المستشرقين منهم الذى يتواصلون باستمرار مع المركز الثقافى المصرى! لهذا فإن ما يتعرض له الإسلام مؤخرا من محاولات لتشويه صورته فى العالم ، دفع الدكتور الدماطى لإقامة ندوة ومعرض وثائقى عن الإمام محمد عبده، عرضت فيها نماذج من الوثائق الخاصة بالشيخ الإمام، أما الندوة فقد شارك فيها اثنان من أساتذة التاريخ الحديث والمعاصر هما الدكتور أحمد زكريا الشلق، عنوانها:«الإمام محمد عبده رائدا للتنوير»، حيث تناول تطور حياته واسهاماته. والدكتور محمد صابر عرب رئيس دار الكتب والوثائق، فقد تناول «الإمام محمد عبده مفتيا»، حيث تناول الرؤية التنويرية، والجانب المضىء لفتاوى إسلامية أفتى بها الإمام، وقارن بينها وبين فتاوى من هم على غير علم، ليزيدوا الحياة تعقيدا! الشىء المدهش هو هذه التوليفة من الحضور بين مبعوثين، ومصريين ألمان عاشوا عقودا فى المانيا وأصبحوا من مواطنيها لكن دماؤهم بها حنين إلى مصر يدفعهم إلى هذا المركز الثقافى كى يتحدثوا لهجة بلدهم، ويلتقوا بأبنائها ومستشرقين ألمان عشقوا تاريخ مصر، لكن هؤلاء جميعا اجتمعوا على حب مصر والقلق على مستقبلها، وهو ما ظهر جليا من خلال الأسئلة والنقاش، الذى تطرق من محمد عبده إلى أحداث ماسبيرو! حتى أنى وجدت سيدة متقدمة فى السن لها ملامح أوروبية تتابع باهتمام، لكنها حين تطرق النقاش إلى ما يجرى فى مصر قالت «احنا رايحين على فين».. اكتشفت بعد المحاضرتين أن السيدة هى زوجة هانى النقراشى حفيد النقراشى باشا، وهى تعيش فى ألمانيا منذ عقود طويلة، لكنها مازلت تهتم بمصر وبكل ما يجرى بها! رأس نفرتيتى معذورون المصريون حين يتعلقون ببلدهم ويتتبعون أخبارها، وأن تكون مثار فخرهم واهتمامهم، فليسوا هم فقط كذلك، فالألمان أنفسهم أكثر اهتماما، فلا يمكن لأحد أن يتخيل مكانة مصر فى التاريخ والثقافة، إلا حين يذهب إلى بلد مثل برلين، ليكتشف أن مصر وتاريخها بؤرة اهتمام الإنسانية كلها! ففى منطقة المتاحف فى برلين أو ما يطلق عليها جزيرة المتاحف، يقع المتحف المصرى، فى قلب متحف برلين.. لقد كنت فى فضول شديد أن أرى هذا الجزء الذى يحوى آثار مصرية فرعونية والنوبية ورومانية، وهو يقع فى طابقين كبيرين يحوى حوالى ستة آلاف قطعة معروضة، لكن أجملها وأروعها وأبهاها وأندرها، هى هذا الكنز المسمى برأس نفرتيتى! منذ حوالى عامين كان لى حوار مع وزير الآثار السابق الدكتور زاهى حواس، حول استعادة رأس نفرتيتى من متحف برلين، وكان د. حواس يجهز دفوعه فى مواجهة الجانب الألمانى لاستعادة رأس الملكة نفرتيتى، لما لها من قيمة عظيمة! لكن الحقيقة أننى حين رأيت هذا التمثال بكل هذا الجلال والجمال، محاطا بهالة من الضوء فى قلب ظلام دامس، بث كل منهما بعناية، حتى وجدت عيناى تغرورقان بالدمع وقدماى تحجران مكانهما، احتراما لمليكتنا الفرعونية الجميلة، التى وقف حولها الزائرين فى انبهار وتأمل واحترام، حينها فقط قلت.. بل هذا هو مكانها الحقيقى، لكى يشاهدها العالم كله متفردة.. لكنها فى النهاية ستظل ملكة مصر فى قلب برلين، الذى لن ينتزعه أحد!