عرفت الأستاذ أنيس منصور من خمسة وثلاثين عاماً.. بالتحديد فى منتصف عام 1976.. التقيت به لأول مرة فى مكتبه بمؤسسة دار المعارف قبل شهور قليلة من صدور مجلة أكتوبر .. يومها ذهبت أقدم له ما تصورت أنه أوراق اعتمادى كصحفى يبحث عن فرصة ويجرى وراء حلم!.. قدمت للأستاذ أنيس عددا من الموضوعات التى وجدت طريقها للنشر فى بعض الصحف التى كنت أتمرن بها.. فراح يقلب فيها بسرعة ثم أعادها لى.. كأنه لم يقرأ وكأننى لم أكتب!.. بداية غير مطمئنة!.. راح الأستاذ أنيس بعد ذلك يقلِّب فى أوراقه قبل أن يلتفت إلىّ ويسألنى: لماذا تريد أن تعمل بالصحافة؟.. قلت على الفور وبدون تردد: لأننى أعشق هذه المهنة ولا أتصور نفسى إلا صحفيا.. لأننى أعشق الكتابة والكلمات والمعانى الجميلة.. واستطردت بصوت خفيض كأننى أخجل مما أقول: ولكننى خريج كلية الزراعة!.. لم يرد الأستاذ أنيس وإنما هَبّ واقفا وأمسكنى من ذراعى متجها بى ناحية باب مكتبه.. وسقط قلبى بين قدمى ولكننى فوجئت به يجتاز باب المكتب متجها بى لمكان متسع عرفت فيما بعد أنه صالة التحرير.. وبكلمات مقتضبة قدمنى للحاضرين: زميلكم الجديد إسماعيل منتصر.. والتفت ناحيتى وقال: اتفضل يا أستاذ احضر الاجتماع!.. وهكذا عرفت الأستاذ!.. وهكذا أصبحت تلميذا فى مدرسة الأستاذ.. وهكذا عملت معه صحفيا فى مجلة أكتوبر التى رأس تحريرها فى الفترة من عام 1976 إلى عام 1985.. والتى كان يتباهى بأن النسبة الأكبر من محرريها من الشبان الذين لم تكن لهم سابق تجربة فى مجال الصحافة.. وحتى بعد أن ترك الأستاذ أنيس منصور موقعه.. لم تنقطع صلتى به.. فكنت حريصا بين الحين والحين على الاتصال به ولقائه بسبب وبدون سبب.. وكان آخر هذه الأسباب الاتفاق معه على نشر مذكرات الرئيس الراحل أنور السادات فى كتاب والتى كان يكتبها هو فى الأعداد الأولى لمجلة أكتوبر بعنوان «من أوراق السادات».. وبالطبع أتاحت لى كل هذه السنوات أن أقترب من الأستاذ وأعرفه أكثر.. ثم تبين لى أننى كلما عرفته أكثر كلما اكتشفت أننى لا أعرفه.. فقد كان يدهشنى دائما بكلماته ويبهرنى دوما بمواقفه.. وما أجمل كلماته.. وما أروع مواقفه!.. *** فى مكتب مدير التحرير - الأستاذ محمد عبدالوارث - التففنا حول الأستاذ أنيس منصور نسمع ونسأل ونناقش.. كنا مجموعة من المحررين الشبان والعواجيز وما بين الاثنين.. ودخل الساعى يحمل بروفة لعامود الأستاذ اليومى «مواقف» فطلب الأستاذ من أحدنا أن نقرأه بصوت عال لأنه حريص على أن يعرف رأينا فيما يحمله هذا العامود تحديدا من معان.. لم يسبق للأستاذ أن استعان برأينا فيما يكتب وأظنها من المرات القليلة التى فعل فيها ذلك.. ولذلك كان حرصنا كبيرا على الأنصات والتعليق.. قلت للأستاذ: كلمات العامود رشيقة والمعانى جميلة لكن ماذا تقصد بالضبط من السطرين الأخيرين؟.. وظهر الانزعاج على وجه الأستاذ وامتدت يده تخطف بروفة العامود وراح بقلمه يشطب السطرين الأخيرين واستبدلهما بسطرين آخرين وهو يقول: ماذا تقصد بالضبط.. ماذا تقصد بالضبط.. إذا لم تفهم أنت الصحفى ما أقصده فهل سيفهم القارئ العادى؟!.. كان الأستاذ عظيم الاحترام لنفسه.. ولقارئه!.. *** كلفنى الأستاذ يوما بالسفر إلى السعودية فى إحدى العبّارات.. الظروف السياسية منعتنى من الحصول على تأشيرة فلم أتمكن من دخول الأراضى السعودية وبقيت بالعبّارة أثناء تواجدها فى ميناء جدة.. ثم حدث أن اتجهت العبّارة إلى بورسودان فسافرت معها مرغما ثم عادت إلى جدة ومنها اتجهت إلى بورسودان.. كل ذلك وأنا غير قادر على مغادرتها.. وهكذا امتدت رحلتى الصحفية من أسبوع إلى 23 يوما.. وعدت وكتبت ما تصورت أنه مغامرة صحفية مثيرة وخطيرة واخترت لها عنوان 20 يوما حول موانئ البحر الأحمر.. اخترت العنوان متأثرا بعنوان كتاب الأستاذ الشهير 200 يوم حول العالم.. وتصورت أن تقليد عنوان الأستاذ سيجعل القارئ شغوفا بقراءة موضوعى.. وعندما قدمت الموضوع للأستاذ أنيس وكان جالسا وسط مجموعة من زملائى راح يقلب بسرعة فى صفحاته ثم أعاده لى وهو يبتسم ابتسامة لم أستريح لمعناها.. استدعانى الأستاذ بعد قليل فى مكتبه وسألنى: هل سمعت عن فيلسوف اسمه نيتشه؟!.. قلت: أعرف أنه واحد من أعظم الفلاسفة الألمان.. قال: هل تعرف ماذا يقول هذا الفيلسوف العظيم؟.. ولم أعرف ولم أرد فاستطرد الأستاذ كان يقول: كن رجلا ولا تتبع خطواتى.. وضحك الأستاذ بصوت عال وهو يقول: موضوعك عن البحر الأحمر جميل.. لكن العنوان لازم يتغير.. ابذل جهداً وفكر فى عنوان جديد.. وفهمت معنى كلمات الفيلسوف الألمانى الشهير.. وفهمت أكثر معنى كلمات الأستاذ!.. كان الأستاذ يعلمنا.. كيف نكون أنفسنا!.. *** خرجت يوما من باب المصعد بالمؤسسة متجها للخارج فإذا بالأستاذ فى صحبة ضيف، كان يبدو مهما، وإن لم أتبين ملامحه.. المهم أننى تنحيت جانبا لأفسح الطريق للأستاذ وضيفه وبعد أن دخل الاثنين المصعد فوجئت بالأستاذ ينادينى فدخلت المصعد مرة أخرى فقدمنى لضيفه.. مددت يدى أصافح الضيف عندما بدأ الأستاذ بتقديمى له قائلاً: زميلى الأستاذ إسماعيل منتصر.. ثم التفت ناحيتى وقدم الضيف لى قائلاً: عساف ياجورى.. وانزعجت بشدة وسحبت يدى بسرعة كأن ماسا كهربائيا قد أصابها.. وضحك الأستاذ أنيس بصوت عال وهو يقول، موجها كلامه للضيف الإسرائيلى عساف ياجورى، الذى تم أسره خلال حرب أكتوبر والذى طلب فيما بعد زيارة القاهرة ولقاء عدد من الشخصيات منها الأستاذ أنيس منصور.. ضحك وهو يقول: أنتم لا تريدون أن تصدقوا أن المصريين يمكن أن ينسوا عدواتكم بسهولة!.. هل أراد الأستاذ أن يعطى الإسرائيليين درسا فى صعوبة التطبيع.. هل أراد أن يختبر تقبل المصريين للإسرائيليين؟!.. لم أجرؤ ساعتها على سؤاله!.. *** ذهبنا يوما للقاء الرئيس الراحل أنور السادات فى منزله بقرية «ميت أبو الكوم».. كان الحدث بالنسبة لنا نحن محررى أكتوبر من الأحداث التاريخية.. فهى المرة الأولى التى نلتقى فيها برئيس مصرى وجها لوجه نسمع منه ويسمع منا.. كان الأستاذ أنيس منصور صاحب فكرة هذا اللقاء وكانت وجهة نظره التى اقتنع بها الرئيس السادات أن مجلة أكتوبر واحدة من بنات أفكار السادات ومن ثم فإن محرريها هم أحفاده الشرعيون!.. هكذا كانت طريقة أنيس منصور وهكذا كان أسلوبه.. المهم أننا ذهبنا جميعا للقاء السادات وقضينا معه اليوم وتناولنا معه الغداء واستمعنا له وسألناه وأجاب.. وعدنا إلى مقر المجلة غير مصدقين.. بعد يومين وقبل يوم واحد من صدور العدد الجديد من مجلة أكتوبر اجتمع بنا الأستاذ لأنيس منصور وبادرنا بسؤال لم يخطر على بال واحد منا: هل كتب أحدكم شيئا عن لقاء السادات؟.. نظرنا إلى أنفسنا ولم نجب.. إما من المفاجأة وإما من الخجل.. وانتهى الاجتماع بأسرع مما نتوقع.. وعندما صدر العدد الجديد من المجلة فوجئنا بموضوع منشور عن لقاء المحررين بالرئيس السادات.. لم يحمل الموضوع توقيع كاتبه الأستاذ أنيس منصور وإنما كان الموضوع موقّعا باسم «واحد من أكتوبر».. وفهمنا المعنى واستوعبنا الدرس!.. وعندما التقيت بالأستاذ فى نفس يوم صدور العدد الجديد سألنى: هل قرأت الموضوع الذى كتبه «واحد منكم».. وضحك بصوت عال.. وضحكت من الخجل!.. واستطرد قائلاً: أسوأ أخطاء الصحفى أن ينسى أنه صحفى!.. *** اجتماع طارئ وعاجل وسريع.. هكذا تمت دعوتنا للقاء الأستاذ أنيس منصور الذى أخبرنا بأننا جميعا مكلفون بتغطية زيارة الرئيس الأمريكى كارتر للقاهرة.. وقام مديرو التحرير بتوزيعنا على الأماكن التى ستشملها الزيارة.. وتمت الزيارة وقدمنا ما كتبناه للأستاذ أنيس منصور واكتشفنا أننا كتبنا مالا يستحق النشر.. ومع ذلك فوجئنا بموضوع كبير منشور عن الزيارة ملىء بالأسرار والتفاصيل ويحمل توقيعنا جميعا إلى جانب اسم الأستاذ أنيس منصور.. وفيما بعد سمعناه يقول: أعرف أنكم بذلتم أقصى جهد ممكن.. وليس ذنبكم أنكم كنتم فى أماكن ومواقع لا تسمح لكم بالحصول على معلومات.. كان تشجيعه الدائم للمحررين الشبان.. بلا حدود!.. *** رحم الله الأستاذ الذى تعلمنا جميعا فى مدرسته.. مدرسة الكلمات الجميلة والمواقف الرائعة.. مدرسة أنيس منصور!..