فى الحلقة السابقة كشف السفير بسيونى سرًا -ربما يذاع لأول مرة- أن إسرائيل كانت تخطط -بدعم من أمريكا- لضرب قوات الجيشين الثانى والثالث فى حالة انسحاب تلك القوات من الشرق إلى الغرب على غرار ماحدث فى 67 حيث انتهزت إسرائيل فرصة الانسحاب العشوائى وانقضت على المشاة العزل لاصطيادهم، ولأن الرئيس السادات كان يعرف سلفا ما يدور فى عقلية المخطط الإسرائيلى، فقد حذر من خلال قنواته السرية أنه سيضطر آسفا إلى حرق القوات الإسرائيلية فى الثغرة إذا أقدمت على مثل هذا الفعل، أو رفضت العودة إلى خطوط 22 أكتوبر أو رفضت الجلوس على مائدة المفاوضات..موشيه ديان الذى أطلقوا عليه إله الحرب فى 67.. اعترف أن يوم «كيبور» هو أسوأ أيام إسرائيل...التفاصيل الكاملة لخرائط الألغام التى حصل عليها اللواء الجمسى فى مباحثات الكيلو101...الدبابات المصرية كانت مستعدة لسحق قوات شارون فى الثغرة....بعد تصميم السادات فاق الثعلب المكار هنرى كيسنجر وزير خارجية أمريكا من الحلم الذى كان غارقا فيه حتى أذنيه وقام برحلات مكوكية إلى تل أبيب ليكشف لجنرالات إسرائيل نية الرئيس السادات، كما قام برحلات أخرى إلى أسوان ليقنع الرئيس المصرى بالتأنى والصبر، وعدم اتخاذ أى إجراء من شأنه تأزم الموقف أو قطع الطريق على مفاوضات السلام أو مباحثات الكيلو101. وحتى يكون القارئ على علم لابد من التركيز على عدة حقائق؛ أهمها أن الأرض التى تمركزت عليها القوات الإسرائيلية، بعد قرار وقف إطلاق النار فى 22 أكتوبر لم تكن شيئا تذكر، ولم تحقق أى ميزة لقوات شارون الذى ملأ الدنيا ضجيجا، كما أنها لم تشكل أى ضغط على قوات الجيشين الثانى والثالث؛ ولم تتمكن تلك القوات من التحرك إلاّ بعد قرار وقف إطلاق النار، حيث تحركت جنوبًا تجاه مدينة السويس، وشمالا فى اتجاه مدينة الاسماعيلية، ومع ذلك -كما قال السفير بسيونى- فقد وضعت تلك القوات نفسها فى فم الأسد، ومن يدخل فم الأسد لن يخرج منه سالما -على حد تعبير الرئيس السادات؛ حيث كانت الدبابات المصرية مستعدة لسحق قوات شارون فى الثغرة. والحقيقة المهمة أيضًا أن إسرائيل لاتنسحب من الأراضى التى احتلتها إلا تحت ضغط القوة العسكرية، فلولا إدراك إسرائيل أنها فى خطر ما انسحبت إلى حدود 22 أكتوبر.. ولكن السؤال الذى يطرح نفسه: هل انسحاب إسرائيل تم بشكل طبيعى؟ أو أن هناك ألاعيب مارستها مع المفاوض المصرى، قبل وأثناء عملية الانسحاب؟. قال السفير لسيونى لم تكن إسرائيل جادة أو مخلصة فى أى مفاوضات أو مباحثات فى يوم من الأيام لأنها لاتعترف بالحدود الدائمة، أو حق الغير فى الوجود، كما أنها تبحث عن الثمن أو المصلحة عند إجراء أى مفاوضات. ولقد ظهر فى مباحثات الكيلو101،أسلوب المراوغة أو لعبة القط والفأر التى دأبت عليها إسرائيل ومازالت تؤمن بها حتى أيامنا تلك وتمارسها الآن مع الرئيس الفلسطينى محمود عباس أبو مازن أو مع من سبقوه. فعلى الرغم من أن الجانب المصرى بقيادة اللواء محمد عبدالغنى الجمسى رئيس هيئة العمليات ورئيس الأركان ووزير الدفاع فيما بعد، اشترط انسحاب إسرائيل إلى خطوط 22 أكتوبر قبل بدء المفاوضات فإن أهارون ياريف رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلى لم ينظر إلى هذا المطلب حيث طلب فى المقابل سرعة وقف إطلاق النار، وسرعة تبادل الأسرى والجرحى، وفك الحصار عن باب المندب، وعندما أحس الجنرال النحيف أو اللواء الجمسى بسوء نية إسرائيل أعلن على الملأ أن طريق المفاوضات مسدود، وأنه لن يتحمل أسلوب المراوغة الذى دأبت عليه إسرائيل لإلهاء المفاوض المصرى عن القضية الأساسية، وهى انسحاب قوات العدو من الأراضى التى تمركزت عليها بعد قرار 242 الصادر من مجلس الأمن فى 22 أكتوبر. عندها تدخل المفاوض الأمريكى هنرى كيسنجر لدى الرئيس السادات وتم الاتفاق على مجموعة من النقاط أطلقوا عليها النقاط الست، وشملت الالتزام بوقف إطلاق النار، وانسحاب إسرائيل إلى خطوط 22 أكتوبر، وفتح طريق القاهرة لتلبية احتياجات مدينة السويس وقوات الجيش الثالث، وتبادل أسرى وجرحى الحرب وكانت هذه النقاط مقدمة طبيعية لفك الاشتباك بين القوات المصرية والإسرائيلية غرب وشرق القناة. إله الحرب وتأكيدا للمبدأ الذى يؤمن به وهو سوء نية المفاوض الإسرائيلى فقد أكد السفير بسيونى أنه فى الوقت الذى فتح فيه الرئيس السادات ذراعيه بغرض تحقيق سلام شامل وعادل، فقد كانت الحكومة الإسرائيلية على النقيض، وأدعت أنها فى مركز قوة، رغم أن الواقع كان يؤكد غير ذلك تمامًا فالجنرال موشيه ديان إله الحرب فى إسرائيل كما أطلقوا عليه بعد نكسة 67 قد اعترف صراحة «أن يوم كيبور هو أسود يوم مر على إسرائيل منذ تأسيسها».. ومع كل هذا فقد أراد الجنرال الإسرائيلى أهارون ياريف حفظ ماء وجهه حيث ربط انسحاب قوات شارون من الغرب بانسحاب القوات المصرية من الشرق، وكأنك يا أبو زيد ما غزيت؛ عندها انتفض اللواء الجمسى وقال بحدة للمفاوض الإسرائيلى: لن تنسحب القوات المصرية قيد أنملة، لأن الأرض التى تمركزت عليها هى أرض مصرية، وأنها استردتها بالقوة المسلحة، وليس بالتفاوض أو السلام، وفى المقابل فإن الأرض التى تمركزت عليها قوات شارون فى الغرب، هى أرض مصرية، سيطرت عليها بعد قرار وقف إطلاق النار، وحاولت تحقيق مزايا استراتيجية على الأرض، ولكن هيهات!! عجلة السلام وحتى تتحرك عجلة السلام إلى الأمام أجبر كيسنجر الحكومة الإسرائيلية أن تكون مفاوضات الكيلو 101 على مستوى رئاسة الأركان فكان اللواء الجمسى من الجانب المصرى وبنيامين بن إليعازر من الجانب الإسرائيلى وبعد مفاوضات شاقة انسحبت إسرائيل من منطقة الأدبية وعتاقة وطريق السويس إلى ممر متلا شرق القناة كما انسحبت من منطقة البحيرات حتى ممر الجدى وانسحبت من فايد والدفرسوار وضواحى القنطرة شرق وضواحى الإسماعيلية ومنطقة البحيرات المرة وإنشاء منطقة عازلة بمعرفة الأممالمتحدة لتنفيذ عملية الفصل بين القوات. وقد كشف السفير بسيونى من خلال أوراقه الخاصة أن انسحاب إسرائيل من غرب القناة لم يكن منحة أو هبة منحها جنرالات إسرائيل للمفاوض المصرى ولكنه كان ضرورة ملحة فرضتها الأوضاع السيئة للقوات الإسرائيلية غرب القناة، بالإضافة إلى الظروف الدولية التى دعت أمريكا إلى حماية إسرائيل بالضغط على الرئيس السادات فى محاولات رخيصة لتجميل صورة الجيش الإسرائيلى الذى قيل عنه إنه لا يقهر، حيث حذرت - أمريكا - السادات قائلة له: إذا فكرت فى ضرب قوات شارون فى الثغرة ستضر أمريكا آسفة إلى التدخل مباشرة، ممايعنى أن الجيش المصرى سيشتبك مع الجيش الأمريكى وجها لوجه، وحتى لايتجدد القتال على الجبهة مرة ثانية، فقد أجبرت أمريكا إسرائيل على الانسحاب وتحكيم العقل قبل تحكيم السلاح. الوقيعة وقبل عملية الانسحاب يكشف السفير بسيونى سرًا - ربما يذاع لأول مرة - أن أمريكا حاولت الوقيعة بين الرئيس السادات وجنرالات الجيش المصرى، عندما ادعى كيسنجر أن اللواء الجمسى يضع كثيرا من العقبات والقيود فى طريق السلام لبناء مجد شخصى على حساب رئيس الدولة - أى الرئيس السادات - ولم يكتف كيسنجر بهذا بل حاول الوقيعة أيضا بين الرئيس السادات ووزير الدفاع المشير أحمد إسماعيل، بحجة أن المشير أحمد إسماعيل انتقد عملية تسليم الأسرى والجرحى، التى باركها السادات، قبل فض الاشتباك أو الفصل بين القوات، كما رفض المشير أحمد إسماعيل مقابلة رئيس الأركان الإسرائيلى بنيامين بن إليعاز أثناء مباحثات الكيلو101. وكان الهدف من هذه الألاعيب التى يخطط لها كيسنجر هو الانفراد بالرئيس السادات وإقصاء جنرالات الجيش من عملية التفاوض لصالح إسرائيل. وفى سؤال لأكتوبر عن مدى استجابة الرئيس السادات لألاعيب كيسنجر ضحك السفير بسيونى قائلا: يبدو أن «الزن على الودان أشد من السحر»، كما يقول المثل الشعبى، حيث نحى الرئيس السادات الجنرالات واستعان بإسماعيل فهمى وزير الخارجية المصرى فى الجلسات الأولى من المباحثات وكانت مفاجأة عندما وافق الرئيس السادات على تخفيض عدد القوات المقاتلة شرق القناة وتخفيض المدرعات والمجنزرات وقطع المدفعية. نبوءة السادات ويكشف السفير بسيونى من خلال أوراقه أن المشير أحمد إسماعيل ومعه اللواء الجمسى اعترضا فى مذكرة مكتوبة على تخفيض عدد القوات المصرية شرق القناة، وطلبا من الرئيس السادات تصحيح الوضع، إلاّ أنه كان يرى -ومن وجهة نظره- أن إسرائيل لن تقدم على الحرب مرة ثانية، بعد الفضيحة، التى لحقت بجيشها أثناء حرب أكتوبر، ولعلمه أيضًا أن الجيش المصرى ليس لقمة سائغة، يسهل أكلها أو هضمها فى أى وقت، بالإضافة إلى أن الرئيس السادات كان يرى ببعد نظره أيضا أن قيمة السلاح لا تكمن فى قربه أو بعده من موقع الحدث أو أرض المعركة، ولكن قيمته الحقيقية تكمن فى نوعيته وطريقة استخدامه ومدى إيمان المقاتل بالعقيدة التى يحارب من أجلها، وقد صدقت نبوءة الرئيس السادات -كما قال السفير بسيونى- حيث ظهرت صواريخ طويلة ومتوسطة وقصيرة المدى، لدرجة أن صدام حسين نجح فى تهديد إسرائيل بصواريخ سكود رغم آلاف الأميال التى تفصل بغداد عن تل أبيب وظهور صواريخ أريحا الإسرائيلية وشهاب الإيرانية والتى يمكنها ضرب أى عاصمة عربية، كما أن تلك الصواريخ والأسلحة لم تعد حكرا على الدول فحسب، ولكنها أصبحت فى حيازة المنظمات والحركات. وعودًا على بدء فإنه إذا كان المشير الجمسى قد اعترض فى مذكرة مكتوبة ومعه المشير أحمد إسماعيل على تخفيض عدد القوات والمدرعات المصرية شرق القناة، فقد اعترض بشدة على سياسة كيسنجر، والتى تهدف إلى حماية إسرائيل وتحصيل مكاسب لا أول لها ولا آخر؛ وتذكر السفير بسيونى أنه فى إحدى جلسات الحوار قال المشير الجمسى لكيسنجر بلجهة حادة: نحن لا نوافق على أن تعطى إسرائيل كل شئ وتحرم القوات المسلحة المصرية من أى شئ.. والحق يقال - كما قال السفير بسيونى - لقد كان الجنرال النحيف محمد عبدالغنى الجمسى مثل الشوكة فى حلق إسرائيل، وكان رجلا كفؤًا صارمًا محافظًا عاشقًا للانضباط والتقاليد العسكرية، وهب نفسه لمصر رفض الجمسى أساليب كيسنجر وأعترض على اتفاق الرئيس السادات بتخفيض عدد القوات شرق القناة، ولكن عندما لم يجد اللواء الجمسى من الأمر بدًا - كما قال السفير بسيونى - قام بتحذير بنيامين بن إليعازر رئيس الأركان الإسرائيلى فى مباحثات الكيلو 101 حذره من تدمير المنشآت المدنية أثناء الانسحاب أو إهانة أى مواطن مصرى. وكان أخطر شئ طلبه الجنرال النحيف ولم يخطر على بال أحد، عندما رفض التوقيع على الاتفاق إلاّ بعد تسليم إسرائيل خرائط الألغام التى زرعتها فى المناطق المدنية، والطرق والمحاور التى تمركزت فيها بعد قرار وقف إطلاق النار، خاصة الخرائط التى زرعتها إسرائيل فى حقول المانجو بالإسماعيلية لتدمير أصحاب تلك الحقول بعد الانسحاب. تذكر السفير بسيونى فقال: فى بداية الأمر ماطل بن إليعازر ورفض تسلم الخرائط لكن تحت ضغط وإصرار المشير الجمسى، تسلم الجنرال النحيف الخرائط واشترط أن تقوم إسرائيل بالتعاون مع القوات المصرية وبعض مفتشى الأممالمتحدة فى نزع تلك الألغام والتى كانت بمثابة قنابل موقوتة لحصد أرواح أبرياء لا ذنب لهم ولا جريرة وحتى لايتكرر مايحدث الآن فى العلمين عندما تسببت ألغام قوات الحلفاء فى قتل وإصابة أكثر من 10 آلاف مواطن، وحرمان المصريين من زراعة واستثمار ملايين الأمتار. فى الحلقة القادمة: المسكوت عنه فى زيارة الرئيس السادات للقدس