الجاسوس المزروع، هو اكثر جاسوس يحتاج إلى التدريب، ولابد أن يتمتًَّع بموهبة حقيقية، تتيح له البقاء طويلاً، فى الوسط الذى سيتم زرعه فيه، وهو يتلًَّقى نوعاً خاصاً من التدريبات، يمكًَّنه من التعايش وسط العدو، دون أن ينكشف أمره، ومنذ يضع قدميه فى الوسط الجديد، يمر بعدد من المراحل والمسميات، التى يقتضيها وجوده، بدءاً من العميل النائم، أو (الجاسوس النائم)، وحتى ما نطلق عليه اسم (الجاسوس المقيم). ففى البداية، وعندما يصل الجاسوس إلى الأرض الجديدة، يطلق عليه اسم (الجاسوس النائم)، وهذا المسمى يعنى أنه جاسوس لا يمارس أية أنشطة تجسًَّسية، مهما كانت الاسباب أو المغريات، حتى لا ينكشف أمره، أو يثير الشبهات من حوله، بل ربما يتعيًَّن عليه احياناً، ان يبلغ سلطات الأرض الجديدة، عن كل ما يثير شكوكه فيمن حوله، أو أية محاولة لاستقطابه، كما يفعل أى مواطن شريف هناك.. والغرض من هذا أن يمر الجاسوس أوًَّلاً بمرحلة مد جذوره فى الأرض الجديدة، بنفس الأسلوب والترتيب الطبيعى، الذى يمر به أى قادم جديد، ودون أية معاونة، أو حتى اتصال مباشر، أو غير مباشر، بجهاز المخابرات الذى يعمل لحسابه، وعليه أن يمر بكل المتاعب والصعاب، ويتجاوز وحده كل المحن وكل العقبات، وأن يعانى معاناة أى شخص عادى، وألا يتعسًَّف عقد الصداقات، أو تكوين المعارف، بحيث تسير أموره عادية للغاية؛ فإذا ما وقع على سر مهم، فعليه أن يتجاهله تماماً، مهما بدا له شديد الخطورة أو الحساسية؛ لأنه من المحتمل جداً، أن يكون هذا السر قد وضع أمامه عمداً؛ لاختبار ولائه وانتمائه .. وهذه المرحلة النائمة غير محدودة المدة، بل متروكة للظروف الطبيعية، ولقدرة الجاسوس على التكيّف مع المجتمع الجديد .. ولن يحاول جهاز المخابرات حتى متابعته فى البداية؛ حتى لا تتعًَّرض العملية لأى احتمالات فشل، وعليه أن يدرك هذا من البداية، ويستعد له تماماً، وأن يحتمل كل ما سيلاقيه فى سبيل هذا، ولهذا السبب بالتحديد، يتحتم أن يتمتع بوطنية صادقة، ورغبة مخلصة فى العمل والتضحية فى سبيل وطنه .. ثم تأتى اللحظة المناسبة، وهى لحظة نقل الجاسوس، من مرحلة (الجاسوس النائم) إلى مرحلة (الجاسوس النشط)، وكما أوردنا، فهذا لا يتم بجدول زمنى محدود، إنما وفقاً لتطوًَّرات الأمور وتداعياتها، إذ بعد عام من زرعه تقريباً، ستبدأ مخابراته فى متابعة أخباره وتطوًَّراته من بعيد، وربما من خلال جاسوس آخر، حتى تتيقًَّن من أنه قد حقًَّق الاندماج الكامل مع المجتمع الجديد، ولا تحيط به أية شبهات، مع ملاحظة حتمية ألا يثير أى خلافات مع أية جهة، أو أى فريق، ولهذا نجد دوماً أن سمة كل الجواسيس، إنهم لا يرغبون فى الدخول فى أية مناقشات، حول السياسة أو الدين بالتحديد.. وعندما تتيقن المخابرات من أنه قد بلغ هذه المرحلة، ترسل إليه ما يعرف باسم (إشارة التنشيط)، وهذه الإشارة تكمن دوماً فى شئ عادى للغاية، لا يحوى أية رسائل خفية أو سرية، ولا يمكن أن يثير أدنى شبهة، مثل رسالة من حبيبة سابقة، أو قريب يقيم فى مكان بعيد، أو هدية بالغة البساطة، مثل طاقم حلاقة، أو قميص عادى.. وعندما يتلقى (الجاسوس النائم) هذه الإشارة، التى تم تعريفه بها، قبل بدء مهمته، يدرك أن مرحلة النوم قد انتهت، وحانت لحظة النشاط، التى ما يكون غالباً فى شوق إليه.. ويبدأ الجاسوس عندئذ فى جمع المعلومات، وتكون لديه فى البداية وسيلة بسيطة لتوصيلها، مثل تركها فيما يسمى (النقطة الميتة)، وهذا يعنى أن يذهب إلى مطعم ما مثلاً، فى ساعة محدودة، ويدخل دورة مياهه، ويترك المعلومة فى مكان متفق عليه مسبقاً، وبعد خروجه، سيدخل شخص آخر، لا يعرفه الجاسوس على الارجح، ويلتقط المعلومة، من المكان نفسه، ثم ينصرف، دون أن يلتقى أحدهما بالآخر .. وبعدها، ومع نجاح الجاسوس فى جلب معلومات مفيدة، تحقًَّق نتائج إيجابية فى التعامل مع العدو، يتم اعتباره (جاسوساً إيجابياً)، ويصبح محل ثقة جهاز المخابرات أكثر، فتتحوًَّل عملية نقل المعلومة إلى ما يسمى (اللقاء الخاطف)، حيث سيلتقى لأوًَّل مرة بجاسوس آخر، يتبادل معه المعلومة مباشرة، خلال ثوان معدودة، وبوسيلة تختلف فى كل مرة، ويكون هذا تمهيداً لنقله إلى مرحلة تدريب جديدة، ترفع رتبته فى عالم الجاسوسية.. ولابد فى هذه الحالة من أن تصل إلى الجاسوس رسالة جديدة، إما عبر لقاء خاطف آخر، وإما من خلال رسالة بريدية عادية، من نفس الحبيبة، التى يتبادل معها الرسائل طوال الوقت، وفيها، وبأسلوب متفق عليه، ويحفظه هو عن ظهر قلب، من قبل أن يبدأ مهمته، ومن خلال كلمات بسيطة، عادية المظهر، يتم تحديد موعد خاص معه، فى مكان ما، خارج الدولة التى تم زرعه فيها، وعلى الجاسوس عندئذ أن يجد مبرراً منطقياً للسفر، يجد قبولاً لدى كل من يحيطون به، ثم يذهب إلى اللقاء.. ولهذا فن آخر