يثير الجدل الدائر حالياً فى المشهد السياسى بين القوى والتيارات السياسية وبينها وبين المجلس الأعلى للقوات المسلحة حول ترتيبات وتوقيتات وتشريعات الانتخابات البرلمانية المقبلة.. يثير الكثير من الغموض الذى يخيّم على المرحلة الانتقالية بقدر ما يثير القلق بشأن الخروج الآمن من هذه المرحلة ونقل السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة يرتضيها الشعب، خاصة فى ضوء الضغوط التى يمارسها الإخوان والسلفيون والتى تبدّت فى لغة الخطاب التصادمى وغير السياسى والتهديد باستخدام العنف والاستشهاد فى حالة تأجيل الانتخابات! إن هذا الجدل الذى تفجّر حول الانتخابات وفى هذه الفترة الحرجة وبعد مرور ثمانية أشهر على إسقاط النظام السابق إنما يعنى فى حقيقة الأمر أنه قد تمت إضاعة الكثير من الوقت دون الاتفاق أو التوافق على خطوات وآليات إنهاء المرحلة الانتقالية ونقل السلطة، وهو الأمر الذى يعكس ويؤكد ما سبقت الإشارة إليه من الارتباك والتباطؤ الذى تبدّى فى إدارة المرحلة منذ بدايتها، وهو ارتباك كان من الممكن تفهّم أسبابه فى البداية بعد تهاوى النظام السابق وسقوطه المفاجئ وما تبعه من انفلات أمنى خطير بعد انسحاب الشرطة وكذلك بسبب ضخامة حجم الفساد الذى تكشّف تباعا. غير أنه من غير المقبول أن يظل الارتباك سائدا بعد مرور ثمانية أشهر وهى فترة طويلة نسبيا.. كان يتعيّن أن يتم خلالها ترتيب الأوراق والأوضاع جيدا وبدقة وتهيئة البلاد لنقل السلطة وإعادة بناء مؤسسات الدولة.. *** وإذا كانت دواعى الموضوعية تقتضى التماس الكثير من الأعذار للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بشأن هذه الإدارة المرتبكة للمرحلة الانتقالية خاصة مع انفجار الاحتجاجات والمطالب الفئوية على نحو غير مسبوق، باعتبار أنه تصدّى لمهمة لم يكن مستعدا لها وتحمّل مسئولية سياسية لم يكن بحكم عقيدته العسكرية مهيأ لها وأمسك مؤقتا بزمام سلطة لم يكن ساعيا إليها بل إنه حريص على تسليمها فى أقرب وقت ممكن. إلا أن دواعى الوطنية التى يتسم بها جيش مصر العظيم تفرض على المجلس الذى تحمّل أمانة المسئولية عن حماية وضمان الثورة أن يكون أكثر حزما وعزما وحسما فى هذه اللحظات العصيبة والفارقة التى يمر بها الوطن فيما تبقى من المرحلة الانتقالية وحيث تواجه الثورة خطر انتكاسة بدت محدقة بها من شأنها إدخال البلاد فى نفق مظلم.. تضيع تحته مكتسبات الثورة التى دفع المصريون بدماء الشهداء ثمناً غالياً لنجاحها. *** إن حماية الثورة من خطر الانتكاس ومحاولات السطو عليها تستدعى بالضرورة التوقّف مليا لالتقاط الأنفاس اللاهثة.. تعجلا لإنهاء المرحلة الانتقالية بإجراء الانتخابات دون توافر ضمانات حقيقية لنجاح العملية السياسية لنقل السلطة خاصة مع استمرار الانفلات الأمنى بما يعيق إجراء الانتخابات بأمان ونزاهة. ثم إنه بافتراض فرض الحماية الأمنية للعملية الانتخابية بدعم من القوات المسلحة فإن ذلك وحده فى الظروف الحالية لا يُعدّ ضمانة حقيقية لنزاهة الانتخابات وبحيث تأتى نتائجها معبرة تعبيرا صحيحا عن الإرادة الشعبية، إذ أن النزاهة لا تتحقق بحماية صناديق الاقتراع من التزوير فقط بقدر ما تتطلب وفى المقام الأول توفير المناخ الديمقراطى الصحى قبل التصويت وهو الأمر الذى يتعيّن معه إتاحة الفرصة اللازمة والمدة الكافية للأحزاب الجديدة التى خرجت من رحم الثورة لبناء هياكلها والنزول إلى الشارع وعرض برامجها على الناخبين، وهو مالم يتحقق بعد. إن التعجّل فى إجراء الانتخابات البرلمانية.. «الشعب» ثم «الشورى» قبل استقرار الأوضاع الأمنية وقبل تمكين الأحزاب الجديدة من فرصتها المتكافئة مع غيرها من الأحزاب والتيارات السياسية والدينية لن يكون فى صالح الثورة والديمقراطية المنشودة بقدر ما يثير المخاوف على مستقبل الوطن كله. *** وفى نفس الوقت فإن موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بل حرصه على إجراء الانتخابات دون تأجيل رغم عدم ملاءمة الظروف الراهنة إنما دافعه الأول هو رفع الحرج عن نفسه وتجنبا لشبهة التمسك بالبقاء فى السلطة بأكثر مما تعهد به، بينما هناك إجماع شعبى على أن المجلس بوصفه ممثلا لجيش مصر الوطنى الذى انحاز للشعب ومطالبه المشروعة وتعهد بضمان الثورة وحمايتها.. كان ومازال بحكم عقيدته العسكرية الوطنية فوق مستوى أية شبهة باعتباره درع الوطن الذى أكد أنه لم يكن يوما جيش نظام سياسى أو حاكم ولكنه جيش الشعب. ولذا فإن على المجلس أن يرفع عن نفسه أى حرج إذ أنه تولى مسئولية إدارة شئون البلاد عبر إرادة شعبية ثورية وبتفويض كامل من كافة فئات الشعب، وبهذا التفويض الشعبى فإنه يستند إلى شرعية كاملة منحها له الشعب ومنحتها له الثورة تتيح له إدارة البلاد فى هذه المرحلة الانتقالية وفقا لترتيبات وأولويات جديدة يفرضها الصالح الوطنى العام. ولأن المجلس لم يستمد شرعية ممارسة سلطة إدارة البلاد من حزب أو فصيل أو تيار سياسى بعينه ولا من كل هذه الأحزاب والتيارات وإنما استمد الشرعية من الشعب صانع الثورة، فإن أمانة المسئولية التاريخية تفرض عليه أن يؤمن العملية السياسية لنقل السلطة تأمينا كاملا للحيلولة دون استئثار التيار الدينى المتشدد بالسلطة القادمة والسطو على ثورة الشعب المصرى كله، بقدر ما تفرض عليه ضمان نقل السلطة إلى برلمان وحكومة منتخبين يمثلان الغالبية العظمى من المصريين تمثيلاً حقيقياً. *** ولعله ليس تكراراً بل إنه إلحاح على ضرورة مراجعة إدارة ما مضى من المرحلة الانتقالية وحتى الآن، ومن ثم إعادة النظر فى إدارة ما هو آت منها وعلى النحو الذى يتيح انطلاق العملية السياسية لنقل السلطة وفقاً لأولويات وتدابير وتوقيتات جديدة. إن التمسك بالتريبات السابقة استناداً إلى نتيجة الاستفتاء الذى جرى على بعض مواد الدستور السابق ليس أمرا مقدسا خاصة أنه جرى فى أجواء ارتباك سياسى.. شعبيا ورسميا بقدر ما كان خطأ دستوريا، كما أن الإعلان الدستورى ليس أيضاً أمراً مقدساً، إذ أن من حق المجلس العسكرى بما لديه من سلطة التشريع وبما يستند إليه من شرعية التفويض الشعبى أن يصدر إعلانا آخر وفقا لمقتضيات المرحلة والأوضاع الراهنة والصالح العام للوطن وللثورة. إن للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الحق بل إن من واجبه بحكم مسئوليته التاريخية إصدار إعلان دستورى جديد يتضمن خريطة طريق واضحة المعالم لنقل السلطة وفقا لجدول زمنى وترتيبات محددة.. أولها وبالضرورة إجراءات عملية عاجلة لإنهاء حالة الانفلات الأمنى واستعادة كاملة للأمن من قبل إجراء الانتخابات سواء تقرر إجراء البرلمانية أولاً أو الرئاسية أولاً وحسبما يتراءى للمجلس ووفقا لما تقتضيه الظروف، إذ أن أية انتخابات فى غيبة الأمن بكامل قوته تبدو محفوفة بالمخاطر التى تهدد بتعطيل نقل السلطة لعدة سنوات. *** أن التعجيل بإجراء الانتخابات دون ضمانات واضحة وحقيقية إنما يعنى فى واقع الأمر أن المجلس العسكرى يتخلّص من السلطة تجنبا لشبهة التمسك بها، بينما المطلوب منه أن يسلمها إلى حكومة مدنية منتخبة يرتضيها الشعب وتلك هى مسئوليته أمام الشعب والتاريخ.