بعد أيام طوال اعتاد فيها الشعب المتوارى عن الأنظار أن يسمع أخباراً يومية عن تزايد أعداد الموتى المستمر إثر المجاعة الممتدة بأنحاء البلاد المنهكة على أيدى أصحابها، وبعد اعتياد الناس استقبال خبر وفاة اثنين أو ثلاثة مواطنين يوميا بسبب عجزهم عن شراء قوت يومهم , وبعد أيام مات فيها المئات ورحل فيها عن كل بيت فقير أشقاه الجوع وبعدما أصبح الموت أقرب لهم من نور أعينهم، بعد أيام مرت بطيئة متهادية والموت يتقدمها بشبحه المخيف ويعتصر الفقراء بسطوته الطاغية، ظهرت على شاشة التليفزيون المذيعة القبيحة، المعروفة ببرامجها الساذجة ذات الوجه المغطى بأكوام من الألوان غير المتناسقة وقالت وهى تجتهد فى رسم الحزن على وجهها المطموسة ملامحه، بينما تتأرجح يدها بين خصلات شعرها الصفراء الذهبية لتعيد تنسيقها من جديد، قالت إن رئيسنا المفدى قد قرر أن يلقى خطبة عصماء ذات أهمية بالغة ككل خطبه السابقة والآتية، خطبة تهم العامة بشكل خاص وتهتم بأزمتهم الاقتصادية القاتلة والمثيرة للشفقة. كادت المذيعة الشمطاء تبكى وهى تتحدث عن الفقراء وأزمتهم ومدت يدها لتمسح الدموع المصطنعة فأفسدت ألوان وجهها أكثر مما كانت. وأضافت بعدما تنحنحت واعتذرت عن بكائها المفاجئ أن على كل مواطن صالح , يهتم بمصالح بلده ومستقبله أن يجلس ليلا فى تمام التاسعة أمام شاشة التليفزيون أو بجوار الراديو كى يسمع ما سيقوله الزعيم فى تحليل تلك المأساة العاصفة. ثم انتقلت من ملامح وجهها الحزينة لابتسامة سخيفة مفرطة البلاهة وتخللت يدها شعرها مرة أخرى وهى تقول «والآن أترككم مع مجموعة من أحدث الأغانى العالمية». واستحالت الشاشة إلى أغنية تعود إلى عقود مضت تتصدرها فتاة تتراقص بجسدها المتلوى أمام الكاميرات. كانت المجاعة قد بدأت غزوها الضارى للبلاد منذ شهور مضت وفرضت سيطرتها على الأخبار والنشرات والصحف بعدما ارتفعت أسعار السلع الغذائية لأرقام مهولة وخيالية، فاقت أسعار السلع الترفيهية، حتى أن الناس سعت لبيع بعض قطع أثاثها من أجل الحصول على مجرد لقيمات تسد جوعهم. هم رجال الحكومة والساعون لرضاها فى الظهور فى البرامج التليفزيونية الحكومية مدعين أن الأزمة ما هى إلا صنيعة أحزاب المعارضة المتواطئة والعميلة للخارج وأنهم عازمون القبض على المدبرين لتلك الأزمة وأنها فى طريقها للحل فى غضون أيام قليلة قادمة. وبالفعل تم القبض على عدد من القيادات الحزبية ورؤساء التحرير ومجموعة من التنظيمات الإرهابية المنتشرة هنا وهناك، كما تم القبض على بنتين فى المرحلة الإعدادية، لم يتجاوز عمرهما الخامسة عشرة وادعوا أن هاتين الفتاتين هما العقل المدبر لكل تلك الأزمة المدوية ولكن الأزمة لم تنته بل زادت واستشرت. «أيها الأخوة المواطنون».. هكذا استهل الزعيم المفوه خطابه الأستثنائى المعتاد . وبعد ديباجة تقليدية, قال الزعيم بصوته الأجش المنغم: لقد درسنا المشكلة الاقتصادية من كل أبعادها و درسنا أزمة الجوع من كل جوانبها ووجدنا أن المشكلة تواجه قطاعا صغيرا واحدا من الشعب ألا وهو قطاع الفقراء. ونحن كنظام حكومى ديمقراطى يسعى لمصلحة المواطن الفقير قبلما يسعى لمصلحة الغنى نحن كنظام يقوم على التكافل الاجتماعى فقد صوبنا اهتمامنا تجاه تلك المشكلة ورصدنا لها الحلول وحققنا أعلى معدلات التنمية بالعقود الأخيرة وخططنا وبذلنا الغالى والنفيس من أجلكم , لأننا منكم ولأنكم منا. موتانا فى ظلال تلك الأزمة هم فى عداد الشهداء مصيرهم الجنة فلا تحزنوا كثيرا عليهم فهم سعداء الآن فادعوا لأنفسكم أن تسعدوا مثل سعادتهم. أعدكم يا شعبى الحبيب أن مشكلتكم إلى زوال وأنه بغضون أيام معدودة على أصابع اليد الواحدة لن نقرأ أو نسمع خبرا عن موت أحد الفقراء جوعا لن نرى فقيرا يأكل من بين أكياس القمامة سنضع للمجاعة حدا ونهاية وستصبح تاريخا يتحدث عنه أبناؤكم تاريخا لن تعيشوه مرة أخرى. مدينتنا لن يصبح بها فقراء مرة أخرى سنصلح من أوضاعكم المادية جميعا ولن يصبح أحد بحاجة إلى أى شئ إلا ويجده ستخلو مدينتنا من الفقراء وإلى الأبد هذا وعدى لكم». ولأن قائدنا رجل حكيم وذو بصيرة نافذة فقد وعد فأوفى وحقق ما نطق به فمه ونفذت كلماته وبالفعل لم يصبح هناك فقير واحد بالمدينة بعدما أمر الزعيم بقتل الفقراء جميعا لتصبح مدينتنا خالية من الفقراء.