شاهد.. صلوات عيد القيامة ببورسعيد في افتتاح كنيسة السيدة العذراء    تاجر يستعرض مأكولات الفسيخ في شم النسيم.. وأحمد موسى يعلق: شامم الريحة من على بعد    حزب الله يعلن استهداف مستوطنة مرجليوت بالأسلحة الصاروخية    وكالات الاستخبارات الأوروبية: روسيا تخطط لأعمال تخريبية في أنحاء القارة    الفيضان الأكثر دمارا بالبرازيل .. شاهد    "هزم نفسه بنفسه".. فاروق جعفر يكشف سبب خسارة الزمالك أمام سموحة    تحرير 119 مخالفة مخابز وضبط كميات من الرنجة والفسيخ منتهية الصلاحية بالقليوبية    إصابة 3 أشخاص في تصادم 4 سيارات أعلى محور 30 يونيو    يسعى لجذب الانتباه.. محمد فاروق: كريم فهمي ممثل باهت واقف بمنتصف السلم    ما هي قصة شم النسيم؟.. 7 أسرار عن الاحتفال بهذا اليوم    أول تعليق من محمد عبده بعد إصابته بمرض السرطان    مركز السموم بالقصر العيني: الفسيخ أسماك مسممة ولا ننصح بتناوله.. فيديو    الكشف الطبي على 482 حالة في أول أيام القافلة المجانية بالوادي الجديد    أعراضه تصل للوفاة.. الصحة تحذر المواطنين من الأسماك المملحة خاصة الفسيخ| شاهد    وزير السياحة والآثار يُشارك في المؤتمر الحادي والعشرين للشرق الأوسط بلندن    نائب سيناء: مدينة السيسي «ستكون صاعدة وواعدة» وستشهد مشاريع ضخمة    فيديو.. محمد عبده يبكي خلال حديثه عن إصابته بالسرطان: هذا من محبة الله    «جالانت» يحث «نتنياهو» بقبول صفقة التبادل ويصفها ب«الجيدة» (تفاصيل)    نجل الطبلاوي: والدي كان مدرسة فريدة في تلاوة القرآن الكريم    نتنياهو:‫ الحرب في غزة ستنتهي بانتصار واضح.. ومصممون على إعادة المحتجزين    الوزير الفضلي يتفقّد مشاريع منظومة "البيئة" في الشرقية ويلتقي عددًا من المواطنين بالمنطقة    «ظلم سموحة».. أحمد الشناوي يقيّم حكم مباراة الزمالك اليوم (خاص)    .تنسيق الأدوار القذرة .. قوات عباس تقتل المقاوم المطارد أحمد أبو الفول والصهاينة يقتحمون طولكرم وييغتالون 4 مقاومين    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟ دار الإفتاء تجيب    الإسكان: إصدار 4 آلاف قرار وزاري لتخصيص قطع أراضي في المدن الجديدة    لوائح صارمة.. عقوبة الغش لطلاب الجامعات    ظهر على سطح المياه.. انتشال جثمان غريق قرية جاردن بسيدي كرير بعد يومين من البحث    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    روسيا تسيطر على قرية جديدة في شرق أوكرانيا    لجميع المواد.. أسئلة امتحانات الثانوية العامة 2024    الهلال يطلب التتويج بالدوري السعودي في ملعب المملكة أرينا    طريقة عمل الميني بيتزا في المنزل بعجينة هشة وطرية    نقل مصابين اثنين من ضحايا حريق سوهاج إلى المستشفى الجامعي ببني سويف    تامر حبيب يعلن عن تعاون جديد مع منة شلبي    «العمل»: جولات تفقدية لمواقع العمل ولجنة للحماية المدنية لتطبيق اشتراطات السلامة والصحة بالإسماعيلية    يوسف زيدان يرد على اتهامه بالتقليل من قيمة عميد الأدب العربي    انطلاق مباراة ليفربول وتوتنهام.. محمد صلاح يقود الريدز    فى لفتة إنسانية.. الداخلية تستجيب لالتماس سيدة مسنة باستخراج بطاقة الرقم القومى الخاصة بها وتسليمها لها بمنزلها    وزير الرياضة يتفقد مبنى مجلس مدينة شرم الشيخ الجديد    رئيس مدينة مرسى مطروح يعلن جاهزية المركز التكنولوجي لخدمة المواطنين لاستقبال طلبات التصالح    ندوتان لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية بمنشآت أسوان    تقرير: ميناء أكتوبر يسهل حركة الواردات والصادرات بين الموانئ البرية والبحرية في مصر    الحكومة الإسرائيلية تقرر وقف عمل شبكة قنوات الجزيرة    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة بمحافظة الإسماعيلية خلال العام المالي الجاري    5 مستشفيات حكومية للشراكة مع القطاع الخاص.. لماذا الجدل؟    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    كنائس الإسكندرية تستقبل المهنئين بعيد القيامة المجيد    استشهاد ثلاثة مدنيين وإصابة آخرين في غارة إسرائيلية على بلدة ميس الجبل جنوب لبنان    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    البابا تواضروس: فيلم السرب يسجل صفحة مهمة في تاريخ مصر    ميسي وسواريز يكتبان التاريخ مع إنتر ميامي بفوز كاسح    لاعب فاركو يجري جراحة الرباط الصليبي    طوارئ بمستشفيات بنها الجامعية في عيد القيامة وشم النسيم    موعد استطلاع هلال ذي القعدة و إجازة عيد الأضحى 2024    اليوم.. انطلاق مؤتمر الواعظات بأكاديمية الأوقاف    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



« المصرى اليوم» تصعد «جبل الموت» فى المنيا «1 - 2»

قرى معزولة فى شرق النيل، لا تراها حكومة، ولا تصلها الخدمات ولا تعرف من «قطار التنمية» سوى ترويج المحافظة للمزيد من الموت فى الجبل. فى المنيا تصعد «المصرى اليوم» جبل الموت، هناك حيث يعمل 100 ألف مواطن فى محاجر المحافظة، حيث يسقط الرجال والنساء والأطفال شهداء لقمة عيش يحاولون انتزاعها من حضن الجبل ولو كانت مغموسة فى الدم.
وسط هدير «الحشاشة» ومطارق الطوب وغرابيل «البودرة» يعيش أهالى قرى زاوية سلطان وسوادة ونزلة عبيد ونزلة حسين والدادوية ونزلة فرج الله والحوارتة وطهنا الجبل.. يعيشون قصصا من محافظة رفعت يدها عن وضع قواعد للأمان فى منشآت تدر ملايين وربما مليارات ويدفع ثمنها الفقراء الذين يفقدون أرواحهم وأطرافهم ويصابون بالسرطان والتحجر الرئوى والفشل الكلوى فى رحلة البحث عن لقمة العيش.
قبل شهور بدأت محافظة المنيا حملة لترويج منطقة المحاجر استثمارياً، هذه الحملة شددت على «رخص العمالة» لكن المحافظة نسيت أن تشير إلى «موت العمال»، وإهمال أجهزة الدولة، وغياب الخدمات، وانعدام الرقابة وسيادة قانون «الموت مقابل كام ملطوش».
فى قرى المنيا عاشت «المصرى اليوم» معاناة آلاف الأطفال الذين يصعدون للجبل سائرين على خيط رفيع يفصل الحياة عن الموت، بعد أن حرمت التقاليد النساء من العمل، وبعد أن خطف الجبل أرواح الرجال. ترصد «المصرى اليوم» فى هذا الملف وقائع الموت المعلن فى شرق المنيا، ترصد أرباح البيزنس وخسائر الدم، وتكشف مأساة قرى كاملة تعيش تحت رحمة الجبل، و100 ألف مواطن لا يجدون عملا سوى المحاجر.
أطفال فى حضن الجبل: الموت مقابل 20 جنيهاً فى اليوم
مشهد عمال نحت الدرج أثناء انخراطهم فى العمل يعيدك إلى أجواء سجناء الأشغال الشاقة فى أفلام الأبيض والأسود. لكن المختلف فى «بنى خالد» هو دخول الأطفال إلى الصورة، حيث يبدأ التدريب على نحت السلالم من سن 7 إلى 9 سنوات، ويعملون لمدة ربما تمتد لأكثر من 10 ساعات، ليقف الأطفال بظهور محنية ومقوسة بزاوية 70 درجة بينما يحملون فى أيديهم الشاحوطة، التى تزن من 10 إلى 12 كيلو، مدققين فى الحجر الجيرى لتحويله إلى سلالم أو أعمدة تستخدم فى البناء. لهذا فالشيخوخة المبكرة قَدَر يلاحق عمال الدرج بينما لا ينجو أحد منهم من الإصابة بالانزلاق الغضروفى وأمراض العيون، أكثر من 85% من العاملين فى نحت الدرج مصابون بانزلاق غضروفى ومستمرون فى العمل.
فى محاجر الطوب ينقسم العمل إلى نوعين، العمل على «الحشاشة» ويعمل عليها أسطى وعامل تعديل سكة، ومعهما عاملان أحدهما لتقليب الطوب والآخر لمسح البودرة. أما النوع الآخر فهو «الفصالة»، التى تفصل الطوب من الأرض بعد تقطيع المنشار، ويعمل عليها صنايعى وعامل تعديل سكة.
من بين العاملين فى أحد المحاجر كان محمود صلاح «10 سنوات» من قرية «الديابة قبلى»، ونادر حلمى «14 سنة» ورضا محمد «12سنة»، الذى صعد الجبل للإنفاق على أسرته بعد وفاة والده. وعن متاعبهم ردوا فى وقت واحد «هو فيه شغلانة مفيهاش تعب».
محمود صلاح ترك المدرسة منذ الصف الرابع الابتدائى وخرج ليساعد أسرته بعد رحيل والده، أما نادر فله شقيق أكبر منه يعمل معه، ولهذا لم يترك المدرسة لكنه يحضر إلى الجبل للمساعدة فى المصاريف يقول نادر: «إحنا بنهز الطن ب4 جنيه والنفر مننا بيعمل 5 ولا 6 طن فى اليوم، والكبير يعمل 10 طن «ويضيف: «إحنا بنبدأ شغل الساعة 6 الصبح وبنروح الساعة 5 والواحد فينا بيتحصل له على 20 ولّا 25 جنيه فى اليوم».
رضا محمد «12 سنة» لا يتوقف عن العمل فبعد وفاة أبيه وإصابة أخيه الأكبر بالسكر أصبح هو المسؤول عن الأسرة ويقول: «أبويا متوفى وأخويا الكبير عنده سكر وبنجيب له كل أسبوع علاج ب300 جنيه بعد ما انصاب فى المحاجر».
أما وليد ناصر «14 سنة» فله 4 أشقاء ويقول: «أنا سبت المدرسة لأنى كنت باخد السنة فى 3 سنين، ودلوقتى يوميتى من 25 ل30 جنيه وباشتغل 5 أيام وبادّى الفلوس لأهلى، لأنى أكبر واحد فى إخواتى.. عندى واحد فى الإعدادى واتنين فى الابتدائى وأصغر واحد 6 سنين..وفى يوم ضهرى وجعنى وقعدت يومين فى البيت بس كان لازم أرجع للشغل بسرعة». أمنية وليد أن يجد وظيفة عندما يبلغ عامه العشرين ولا يظل طوال حياته فى المحجر، وليد يحلم بأى وظيفة «فراش أو إن شاالله حتى أمسح جزم».
لا تنتهى المخاطر داخل المحاجر، لكن حتى من يسعدهم الحظ ويتمكنون من الانتظام فى الدراسة يتعرضون خلال ذهابهم وعودتهم من المدرسة لخطر آخر، فأطفال قرى شرق النيل «بنات وأولاد» بمرايل المدرسة أو بالجلابيب يحملون حقائبهم الثقيلة بين أيديهم أو على ظهورهم، يسيرون بها لعدة كيلومترات حتى أقرب مدرسة لقراهم. والطريق الوحيد المتاح للانتقال إلى المدرسة هو طريق السيارات حيث يكونون عرضة لحوادث السيارات.
وفى طهنا إحدى القرى التى تعمل بالمحاجر تقول «أم محمود»: كل بيت فى طهنا «فيه تعويرة، أو موت وفيه تعويرة بموت على طول». كانت أم محمود تقصد الإعاقة، باعتبارها حكماً على صاحبها بالموت الدائم لأنها تمنعه من العمل. سألتها إذا كانت تعرف مخاطر الجبل إلى هذا الحد فلماذا تركت ابنها الأصغر يعمل بالمحاجر، فقالت: «العيال من العوزة بيطلعوا يشتغلوا.. لو قعد مش هنقدر نكفّى المعايش».
المحاجر تحصد أرواح شباب ونساء وأطفال 8 قرى بالمحافظة.. والحكومة غائبة
يكسبون قوت يومهم خصماً من صحتهم وحياتهم، ولا يجدون سبيلاً آخر للحياة، مصيرهم الحتمى هو الموت والإعاقة والأمراض القاتلة، إنهم عمال المحاجر فى المنيا. فى شرق النيل كثير من القرى التى تعيش بالأساس على العمل فى المحاجر مثل «زاوية سلطان» و«سوادة» و«نزلة عبيد» و«نزلة حسين» و«الداودية» و«نزلة فرج الله» و«الحوارتة» و«طهنا الجبل»، وتكمن أهمية قطاع المحاجر بتلك المنطقة فى أنه يضم أكثر من ألف محجر يتقاسم ملكيتها ما يقرب من 6 آلاف شخص.
عندما سألت أحد العاملين بالمحافظة: «الجبل بيدخل كام فى السنة تقريبا؟» رد دون تردد «مليش دعوة دول يخربوا بيتى» صمت الموظف قليلا ثم تابع: «عموما همّا بيقولوا 85 مليون جنيه فى السنة». هنا اندفع أحد الحاضرين قائلا: «حرام عليك 85 مليون إيه!.. إنت هتعمل زى المحافظ، يا بيه دخل المحافظة من الجبل ما يقلش عن 400 مليون جنيه فى السنة».
عدد العاملين فى محاجر المنيا يتجاوز 100 ألف عامل، يعمل منهم فى قطاعات «الطوب والبودرة» ما بين 20 و30 ألفاً داخل المحاجر والباقى فى مهام «الهز» و«التحميل» والمهن المعاونة والكسارات. أى أن القطاع هو مصدر دخل لما يقرب من 100 ألف أسرة ومصدر رئيسى لمحاربة البطالة.
الغريب أن قرابة 30% من العاملين فى المحاجر من حملة المؤهلات العليا، فهناك خريجو حقوق وسياحة وفنادق وآداب وتجارة وساعات طب وهندسة، هذا بخلاف الدبلومات والمؤهلات المتوسطة والطلاب الذين يعملون خلال الإجازات الصيفية.
من هؤلاء يسقط من 5 إلى 10 حالات وفاة و500 مصاب فى المحاجر شهريا. وبالنسبة للإصابات بين العاملين فى المحاجر «اللى بياخد عشر غرز ما يُعتبرشى مصاب، واللى يروّح بيعرج ولا دراعه متجبس بيشكر ربنا»- وفقا لأحد العاملين، الذى استطرد قائلا: «بس هنعمل إيه؟ المنيا بلد تعيسة، الموظف موظف، وعامل الزراعة بيندثر وعشان كده إحنا بنحاول ناكل عيش وبندفع ضريبته من دمنا، فى بلدنا لوحدها أكتر من 70 ماتوا فى الجبل غير الإصابات».
أما بالنسبة للخدمات الصحية فحدث ولا حرج فالحوادث والإصابات هى السيناريو اليومى، والتأخر فى الإسعاف يسرع بإنهاء حياة الكثيرين، فالوحدات الصحية غير كافية ولا تكفى حتى لإسعاف الجراح الخطيرة، والحوادث هناك تتحول إلى كوارث كما جرى فى «حادثة الشرفا ونزلة عبيد» التى انتهت بمقتل 13 شاباً أعمارهم تتراوح بين 17 و23 سنة.
فالوحدة عبارة عن مبنى قديم متهالك توجد به مجموعة من المكاتب ودكة خشبية للانتظار وحجرة كشف فقيرة، وطبيب ممارس عام. وحين يتحدث الناس عن الوحدة وتعاملها مع المصابين يقولون: «مصابو الجبل لابد أن يمروا من هنا لتحويلهم إلى مستشفيات لأن الإمكانيات هنا ضعيفة، وغالبا يكون التحويل لمستشفى الجامعة لأن أغلب الإصابات تكون خطيرة».
أحد العاملين بالوحدة –رفض ذكر اسمه - تحدث عن الإحباط الذى يصيب الجميع خاصة طبيب الوحدة عندما يشعر أنه غير قادر على مساعدة المرضى، وكيف أن سنوات دراسته ضاعت هباء بسبب قلة الإمكانيات، وهو ما يجعله يشعر بعدم جدوى وجوده بالمكان فالخدمة التى سيقدمها تستطيع أى ممرضة صغيرة تقديمها، مشيرا إلى أن الوحدة مجهزة فقط «لإعطاء الحقن وبعض الإسعافات الأولية كتضميد الجروح البسيطة على أكثر تقدير».
ويرى على ضاحى محمد، كاتب الوحدة الصحية بقرية «بنى خالد»، الأمور بشكل أكثر دقة: «مفيش أسبوع بيمر من غير ما يمر علينا مصابين، وفيه أوقات ما بيمرش يوم من غير ما ييجى من المحاجر حد متعور لو محتاج غرز بنعملها له ولو أكبر من كده بنحوله للمنيا، مفيش حتى جبس لو واحد انكسر، لازم يروح المنيا ولا أسيوط».
ويضيف أن حالات لدغات الثعابين لا يمكن علاجها فى الوحدة لعدم توافر المصل ورغم بساطة الحالات فإن «المصاب على ما بيوصل المستشفى بيكون انتهى» لأن أقرب مستشفى لبنى خالد فى سمالوط، وحتى سيارة الإسعاف لكى تأتى وتعبر «المعدية بيكون كل حاجة انتهت»، مؤكدا أن أغلب حالات الوفيات التى حدثت فى الجبل كان يمكن إنقاذها «لو فيه إمكانيات».
رحلة الشقاء اليومى تبدأ قبل مطلع الفجر، فى أماكن تجمع العمال عند كوبرى الشرفا وفى مدخل نزلة عبيد، هناك يبدأ العمال يومهم، المئات ينتظرون رحلات الموت صعودا إلى الجبل، تقريبا40% منهم أطفال.
يتحدث الأطفال عن «السنارة» التى يروح أغلب القتلى ضحية لها، وهى عبارة عن سويتش بدائى لنقل الكهرباء من المحول إلى المحجر، يستخدمه أصحاب المحاجر بدلا من شراء لوحة مفاتيح وفيوزات آمنة.
وتنتشر السنارة فى غالبية المحاجر باستثناء عدد محدود. السنارة عبارة عن لوح من الخشب مثبت على قائمين من الحديد ومثبت به مجموعة من المسامير موصلة بمولد الكهرباء عبر مجموعة من الأسلاك.. ولتوصيل الكهرباء إلى المحجر يقوم العامل بتوصيل هلب يشبه السنارة بأسلاك الماكينات فى المسامير المثبتة على اللوح الخشبى دون أى عوامل أمان.. وأى خطأ ولو كان بسيطاً يصبح العامل عرضة للصعق بتيار كهربائى قوته «450 فولت» وهو ما يؤدى إلى تفحم الجزء الذى تعرض للصعق فى أخف الحالات أو إلى تفحم الجسم بالكامل والوفاة فورا فى حالات كثيرة.. فى نزلة عبيد وحدها أكثر من 50 حالة وفاة بسبب السنارة.
يقول أحمد على محروس «28 سنة» وأب لأربعة أولاد: «السنارة عبارة عن كبل رئيسى جاى من المحول فيه 3 عراوى موصلين بكتلة الخشب دى، وكل عروة طالع منها 4 مسامير، وأنا جانب من شغلتى إنى أوصل الكبل فى السنارة.. لو الصبح والجو مندى ممكن الواحد يروح فيها».
الحديث عن الأمراض المهنية التى تصيب عمال المحاجر حديث مفزع، خاصة إذا كان موثقا بكشوف طبية ودراسات أجريت على قطاع واسع من العمال، فقامت مؤسسة وادى النيل لرعاية عمال المحاجر باصطحاب مجموعات من العمال بشكل عشوائى لإجراء الكشف الطبى عليهم، ليتأكد أن بلوى عمال المحاجر لا تقف عند حد الإصابات ولا الموت، ولكن فى صورة أمراض مهنية قد لا تظهر مخاطرها العنيفة قبل عدة سنوات أخرى.
وتتنوع الأمراض المهنية التى تهدد عمال المحاجر بين أمراض الجهاز الهضمى، التى تصيبهم نتيجة تناول مأكولات من الباعة المتجولين أو مياه الشرب الملوثة بالأتربة، التى قد تؤدى أيضا لإصابتهم بأمراض الكلى، كما أن الإجهاد الشديد وانخفاض مقاومتهم للأمراض يسببان سوء التغذية، والتعرض لأشعة الشمس لفترات طويلة قد يؤدى لإصابتهم بأمراض الإجهاد كإصابات العمود الفقرى وآلام الظهر والعظام وكذلك الإصابة بضربات الشمس.
هذا بالإضافة إلى أمراض الجلد بسبب الغبار الذى يتعرضون له بصفة مستمرة، بل إن التعرض للغبار- جير وسليكا متطايرة- قد يعرضهم للإصابة بالتهابات الحلق والأنف والحنجرة وأمراض حساسية الصدر وتكرار النزلات الشعبية والمزمنة طوال مدة علاجها.
ومع طول فترات العمل بالمحاجر قد يصاب العمال بمرض تحجر الرئة ويؤدى المرض الأخير إلى مضاعفات خطيرة مثل الإصابة بالسرطان، ويكون المصاب به عرضة للإصابة بهبوط حاد فى القلب والدورة الدموية، قد يؤدى إلى الوفاة. ووسط هذه الظروف السيئة فإن هناك مرضاً آخر مصاحباً لكل الأمراض السابقة هو «الدرن» وهو منتشر بين عمال «الداودية» و«نزلة حسين» و«عرب الشيخ محمد» بصفة خاصة.
ولا تتوقف الإصابات والأمراض المهنية عند هذا الحد بل إن ظروف العمل السيئة والخطيرة داخل المحاجر تجعل العمال عرضة لإصابات متكررة مثل الصعقات الكهربية وهى السبب الرئيسى الآن فى أغلب حالات الوفاة داخل المحاجر.. كما تنتشر أيضا وبصفة متكررة بين عمال المحاجر - خاصة عمال نحت الدرج فى بنى خالد والعاملين فى المناشير - إصابات العيون بسبب تطاير الأجسام الغريبة وذرات الغبار أثناء العمل وبسبب دخول البودرة والجير داخل العين، والتى تتحول مع الوقت إلى التهابات شديدة ومزمنة فى العين، كما أن تعرض العمال لأصوات الماكينات العالية ودويها الضخم قد يؤدى مع طول الوقت إلى إصابتهم بفقدان السمع فى ظل غياب كل عوامل الأمن الصناعى عن المحاجر، وكذلك فى ظل الفقدان الكامل للرعاية الصحية.
وفى واحدة من الدراسات حول الأمراض الصدرية التى تصيب عمال المحاجر، والتى أشرف عليها الأستاذ الدكتور فريد صفوت، إخصائى أمراض الصدر بمستشفى الصدر بالمنيا، اتضح أن 75% من الذين خضعوا للكشف مصابون بأمراض صدرية، كما أن 55% من العينة مصابون بحساسية الصدر بينما توزعت بقية الإصابات بين النزلات الشعبية الحادة والالتهاب الشعبى وحساسية بالأنف والإصابة بآلام روماتيزمية بالصدر وارتفاع ضغط الدم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.