الأمر لا يخلو من الطرافة.. وإن كان الموضوع «جد».. فما أن هدأت حرب المليونيات بميدان التحرير بسبب الشهر الكريم.. حتى برزت حرب الوثائق بين الأحزاب والتيارات السياسية المختلفة، فقد عكف بعض مرشحى الرئاسة المحتملين، وكذلك بعض الأحزاب والقوى السياسية على إعداد وثائق تتضمن مبادئ دستورية.. حتى بلغ العدد حوالى 12 وثيقة.. وكل منهم يعتقد أن وثيقته أولى بالرعاية والتطبيق..وكان آخرها ما صدر عن مجلس الوزراء والتى قيل إنه تم التوافق عليها بين التحالف الذى يضم أكثر من 20 حزبا، ثم فوجئنا باعتراض علنى وشديد اللهجة من قبل جماعة الإخوان وبعض الجماعات الدينية عليها. وفى رأيى أن تعدد الوثائق الدستورية.. أمر لا بأس به.. فهو دليل على حيوية الشعب المصرى.. والرغبة الشديدة من قبل النخبة السياسية والقانونية بالمشاركة فى تطوير العمل السياسى والوصول إلى تفاهم يمثل خريطة طريق للسنوات المقبلة.. على اعتبار أن الدستور هو أبو القوانين.. وأنه «العقد الاجتماعى» الذى ينظم حركة المجتمع ويحدد ملامح خطواته المقبلة وهوية الدولة وحقوق المواطنين وواجباتهم. ولكن المشكلة أننا لم نتعود أن نتفق.. ويفتقد البعض منا «المرونة» فى العمل السياسى.. مع أن لعبة السياسة تعتمد على المرونة والمواءمة.. والوصول إلى حلول ترضى أغلب الأطراف، ولعل ذلك يعود إلى سيطرة حزب واحد فقط على النشاط السياسى فى مصر طوال السنوات الماضية ومن قبله كان الاتحادين الاشتراكى والقومى، ويعود أيضا إلى ظهور قوى سياسية جديدة تريد أن تبحث لنفسها عن موضع قدم فى الشارع السياسى وهى معتقدة أنه لا ينقصها التنظيم ولا الكوادر، فأعضاء هذا «التنوع» الجديد فى الخريطة السياسة بعد 25 يناير.. كل منهم يريد أن يعلن عن نفسه.. وأن يسمع وجهة نظره وأن يشارك فى رسم الخريطة السياسية وملامح المرحلة المقبلة. والمشكلة التى نحن بصددها الآن أن مجلس الوزراء وعلى لسان د. على السلمى نائب رئيس الوزراء أعلن عن وثيقة جديدة قيل إنها عرضت على مجموعة من الأحزاب ووافقت عليها.. الوثيقة تضمنت 21 بندا وتنقسم إلى قسمين.. الأول منها يتضمن ما يسمى بالمبادئ الأساسية التى تحدد هوية الدولة من أنها دولة مدنية ديمقراطية تقوم على مبدأ المواطنة وسيادة القانون ونظامها السياسى جمهورى ديمقراطى يقوم على التوازن بين السلطات والتداول السلمى للسلطة وأن الإسلام دين الدولة ولغير المسلمين الاحتكام إلى شرائعهم فى أحوالهم الشخصية وشئونهم الدينية. ثم بعض المبادئ المتعارف عليها عالميا والتى كانت واردة فى جميع الدساتير المصرية السابقة من أن السيادة للشعب وحده باعتباره مصدر السلطات، وسيادة القانون هى أساس الحكم، واستقلال القضاء.. ولكن الوثيقة أضافت بندا جديدا حول نهر النيل- نظر لاعتباره شريان الحياة فى مصر- حيث نصت الوثيقة على التزام الدولة بحسن إدارته وحمايته من التلوث والتعديات وتعظيم الانتفاع به والحفاظ على حقوق مصر التاريخية فيه.. ومن ثم- وهو ما ورد فى بند آخر- مصر جزء من أفريقيا وتعمل على نهضتها وتحقيق التعاون بين شعوبها وتكامل مصالحها. ويأتى الجزء الثانى من الوثيقة عن الحقوق والواجبات العامة فيشدد على أن الكرامة الإنسانية حق أصيل لكل مواطن وأن المصريين متساوون جميعا أمام القانون، وأن الدولة تكفل حرية العقيدة وحرية ممارسة العبادات والشعائر الدينية وتحمى دور العبادة.. وكذلك حرية الرأى والتعبير والصحافة ووسائل الإعلام.. وغيرها من الحقوق المقررة عالميا ومحليا وتضمنتها الدساتير المصرية السابقة ولكن الوثيقة أضافت بعض المستجدات مثل حرية الإنسان فى التمتع بحرمة محادثاته الهاتفية واتصالاته الالكترونية والمعلوماتية وغيرها من وسائل الاتصال الحديثة، ومنها أيضا التأكيد على عدم جواز محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية أو أى قضاء استثنائى، وكذلك وضع حد أدنى للأجور يكفل مستوى مناسبا للمعيشة.. الخ. *** وفى رأيى أن كل ما تقدم من بنود لا يمكن الخلاف عليها أو الاختلاف معها.. لأنها- وكما كررت أكثر من مرة- مبادئ عامة متفق عليها وتضمنتها الدساتير المصرية السابقة وارتضاها المجتمع تشريعا وعرفا.. ولكن المشكلة بدأت من قبل جماعة الإخوان والتيار السلفى تحديدا عندما أعلن أن المجلس العسكرى سوف يصدر هذه البنود التى تضمنتها الوثيقة فى صورة إعلان دستورى جديد، وخاصة أيضا عندما أعلن البعض أن هذه المبادئ «فوق دستورية» أى أنها مبادئ حاكمة ملزمة للجنة أو الجمعية التأسيسية التى سينتخبها مجلس الشعب القادم لإعداد دستور جديد، هنا كشرت الجماعة عن أنيابها وأعلنت عن خلافها مع المجلس العسكرى لأول مرة محذرة من تغليب رأى الأقلية على الأغلبية! وأن هذه الخطوة افتئات واغتصاب لاختصاص الهيئة التأسيسية المنوط بها كتابة مشروع الدستور الجديد الذى سيعرض على للاستفتاء العام.. مشيرة فى بيانها إلى أن الشعب كشف عن إرادته فى استفتاء مارس الماضى والذى حددت فيه «خريطة الطريق» للمرحلة الانتقالية من إجراء انتخابات برلمانية، ثم اختيار اللجنة التى ستعد الدستور وعرضه على الشعب للموافقة عليه.. وانتهاء بانتخاب رئيس الجمهورية.. فلماذا استباق الأحداث؟! وهنا بادر الأزهر الشريف على لسان شيخه الطيب بالدعوة لاجتماع عاجل لإقرار وثيقة الأزهر.. كحل وسط وصيغة توافقية يتفق عليها الجميع! وفى الحقيقة من يطلع على وثيقة الأزهر لا يجدها تختلف كثيرا عن وثيقة مجلس الوزراء سوى فى الصياغة التى غلب عليها استخدام تعبيرات دينية، ولكن المضمون واحد سوى بندين يتعلقان بدور الأزهر فى المرحلة المقبلة.. فمثلا أول بند فى الوثيقة ينص على دعم الدولة الوطنية (بدلا من المدنية) الدستورية الديمقراطية الحديثة، وضرورة اعتماد النظام الديمقراطى القائم على الانتخاب الحر المباشر الذى هو الصيغة العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية فى الفكر والرأى، والتأكيد على مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية، واعتبار «المواطنة» مناط المسئولية فى المجتمع.. وعدم التفرقة فى الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين.. وهكذا نفس المضمون ولكن بصياغة مختلفة إلى أن وصلت الوثيقة إلى البندين الآخرين واللذين ينصان على تأييد مشروع استقلال مؤسسة الأزهر وعودة «هيئة كبار العلماء» واختصاصها بترشيح واختيار شيخ الأزهر والعمل على تجديد مناهج التعليم الأزهرى، واعتبار الأزهر الشريف هو الجهة المختصة التى يرجع إليها فى شئون الإسلام، وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة، مع عدم مصادرة حق الجميع فى إبداء الرأى متى تحققت الشروط العلمية اللازمة.. وبشرط الالتزام بآداب الحوار واحتراما توافق عليه علماء الأمة. وفى رأيى أنها إضافة لا بأس بها.. بل هى تأكيد على أمر واقع فعلا.. فالأزهر هو المؤسسة الدينية الرسمية وتتبعه دار الافتاء ومجمع البحوث الإسلامية التى يعتمد عليها المواطنون فى معرفة أحكام دينهم وقواعد التعامل وآداب العبادات وأحكامها. *** أعتقد الآن أن الصورة قد وضحت تماما.. أنه لا خلاف فى المضمون، ولا فى الملامح الأساسية للنظام السياسى المصرى فى السنوات المقبلة.. مع ملاحظة أننا لا نؤسس دولة جديدة ولا نظام حكم مختلفا.. وإنما نبحث عن بعض «الضمانات» الدستورية.. حتى لا يستبد البعض بنا، كما حدث من قبل.. وإذا كان البعض يريد الإشارة إلى أن مصر دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية، فأعتقد أن هذا تضمنته كل من وثيقة مجلس الوزراء ووثيقة الأزهر، فالأولى أكدت على أن الإسلام دين الدولة، ومبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، بينما أشارت الثانية بمنتهى الوضوح إلى أن الإسلام لم يعرف الدولة الدينية الكهنوتية التى تسلطت على الناس، وعانت منها البشرية فى بعض مراحل التاريخ.. بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هى المصدر الأساسى للتشريع، وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية فى قضايا الأحوال الشخصية. إذن يبقى الخلاف حول إصدار «الوثيقة» فى صورة إعلان دستورى جديد، وهذا مبعثه عدم الثقة والتخوف من سيطرة فصيل سياسى معين على مقدرات السياسة المصرية.. وهو أحد نتائج جمعة 8 أغسطس والتى رفعت فيها التيارات الدينية رايتها السوداء وشعاراتها الدينية! ومع ذلك فلا مانع من التوافق على مبادئ أساسية تكون بمثابة «ميثاق شرف» وطنى يُحترم من الجميع ويمثل استرشادا للجمعية التأسيسية التى سيناط بها وضع مشروع الدستور الجديد.. ويا أيها الفرقاء تعالوا إلى كلمة سواء.. ولتكن مصلحة مصر فوق الجميع وبعيدا عن التربص والتحفز واستعراض القوى والعضلات.. فكلنا فى مركب واحد.. ومن مصلحتنا أن نتفق على كلمة سواء..