ليست مصادفة أن تحدث المصادمات الدامية مساء الثلاثاء الماضى بين الشرطة وبلطجية النظام البائد وبين أهالى شهداء ومصابى الثورة بعد ساعات من صدور حكم القضاء الإدارى بحل المجالس المحلية التى يستحوذ الحزب الوطنى المنحل على 99% من مقاعدها، ورغم تعدد وتباين الروايات حول وقائع تلك الليلة الدامية ومن بينها بيان وزارة الداخلية الذى اتسم بعدم الدقة والصدقية وعلى النحو الذى بدا عودة بل استمرارا للنهج السابق فى الاستخفاف بالرأى العام ؛ إلا أن الأمر المؤكد هو أن ثمة ثورة مضادة بالفعل تستهدف إشاعة الفوضى والاضطراب لإفساد الثورة من بين الروايات المتباينة حول تلك الصدامات يبقى أن أصدقها وأكثرها تماسكا هى أن فلول النظام البائد وقيادات حزبه المنحل أطلقوا جحافل بلطجية حى عابدين للاعتداء على أسر وأهالى شهداء الثورة المتظاهرين سلميا أمام مقر وزارة الداخلية.. احتجاجا على التباطؤ الواضح وغير المبرر فى محاكمة حبيب العادلى ومعاونيه وبعض قيادات الأمن المتورطين فى قتل الشهداء ثم جرى تصوير الواقعة وكأنها أعمال شغب اضطرت معها الشرطة إلى التصدى لها! وسواء صحّت مزاعم وزارة الداخلية بأنها كانت تتصدى لأعمال شغب وبلطجة وأنها لم تستطع التمييز بين البلطجية والمتظاهرين سلميا من أهالى الشهداء، أو كان استدعاء البلطجية قد تم بعلم أجهزة الأمن لضرب أهالى الشهداء، فإنه يبقى فى الحالتين أن تصرّف قوات الشرطة ضد المتظاهرين بدا تصرّفا غير أمنى وغير أمين بل غير حكيم وعلى العكس تماما مما أذيع منسوبا لمنصور العيسوى وزير الداخلية من أنه أصدر تعليمات بضرورة التعامل بكل حكمة مع الأحداث! *** لقد جددت اعتداءات الشرطة وقوات الأمن المركزى - التى ظهرت بعد غياب وانسحاب دام شهورا- على المتظاهرين فى ميدان التحرير مساء الثلاثاء الماضى والذى تصادف أن وافق يوم (28) من يونيو.. لقد جددّت ذكرى يوم (28) من يناير الحزين والذى شهد مجزرة الشرطة والبلطجية المستأجرين ضد شهداء الثورة، وعلى النحو الذى جدد العداء بين الشعب والشرطة واستفزّ مشاعر المصريين وأثار غضبة شباب الثورة وأكد مخاوفهم من إجهاض الثورة وسرقة مكاسبها والالتفاف على مطالبها المشروعة، ومن ثم اعتزامهم القيام بثورة ثانية لحماية ثورة 25 يناير واستعادة روحها مرة أخرى. أما اختزال أسباب تلك المصادمات حسبما جاء فى الرواية الأمنية الرسمية التى تضمنها بيان وزارة الداخلية لتبرير ضربها للمتظاهرين فى اقتحام بعض الأشخاص الذين وصفتهم بالبلطجية لمسرح البالون لمنع إقامة حفل لتكريم أسر الشهداء، ثم تحريضهم لأهالى الشهداء على التظاهر أمام مقر الوزارة والقيام بأعمال شغب.. هذا الاختزال بدا مخلا ومختلا وكذََّبته روايات شهود العيان والمشاهد التى بثتها الفضائيات لتعامل قوات الأمن والمصفحات مع المتظاهرين والتى لم يظهر فيها بلطجية حيث كانوا قد أدوا مهمتهم المطلوبة فى ضرب أهالى الشهداء الذين تراجعوا إلى ميدان التحرير ثم انضم إليهم عدة آلاف من شباب الثورة وجموع المصريين الذين تدافعوا إلى الميدان تباعا بينما قال تليفزيون الدولة الرسمى إن عددهم عدة مئات فى الوقت الذى تبنى فيه وجهة نظر ورواية الداخلية غير الصحيحة. *** إن ما جرى من قمع أمنى للمتظاهرين السلميين من أهالى الشهداء وشباب الثورة مساء الثلاثاء الماضى فى ميدان التحرير واستمر حتى فجر الأربعاء يثير مخاوف حقيقية على الثورة بقدر ما يوحى بأن النظام السابق لم يسقط نهائيا وأن بقاياه وأتباعه مازالوا فاعلين وأن نهجه فى الحكم والإدارة مازال مستمرا! ثم إنه لو صح أن بعض أهالى الشهداء او المواطنين قد استفزّهم وأغضبهم أن تقيم إحدى الجمعيات الخيرية حفلا لتكريم أسر بعض الشهداء بينما قتلة هؤلاء الشهداء لم ينالوا عقابهم.. قصاصا عادلا، فإن معهم كل الحق فى الغضب، إذ إن أرواح ودماء الشباب الشهداء لا تليق المتاجرة بها فى احتفالات فلكلورية، وإذ إن العدالة البطيئة ظلم كبير واستخفاف بهذه الارواح الطاهرة خاصة مع تزايد المخاوف من احتمالات إفلات هؤلاء القتلة من العقاب باستخدام الحيَل والثغرات القانونية. هذه المخاوف ترجحها ما تواتر من ضغوط شديدة.. ترهيبا وترغيبا يتعرض لها أهالى الشهداء من جانب بعض قيادات الشرطة المتهمين بقتل المتظاهرين ومازالوا طلقاء يمارسون سلطاتهم فى مواقعهم للتنازل عن حقهم فى طلب القصاص وإلا تعرضوا لإجراءات انتقامية، بل الأكثر بشاعة من الضغوط هو افتاء بعض المحسوبين على التيار الدينى بجواز قبول الدية والصفح عن القتلة! ومما يزيد من تلك المخاوف أنه بينما صدر الحكم سريعا على العادلى بالسجن فى قضية التربح والفساد المالى يحدث تباطؤ شديد غير مفهوم فى محاكمته على جريمة قتل المتظاهرين وإحداث الفراغ الأمنى فى الوقت الذى جرى اختزال المحاكمات فى الحكم بإعدام أمين شرطة هارب! *** إن أرواح الشباب التى أزهقها النظام السابق وحبيب العادلى ومعاونوه وقيادات الحزب المنحل هى التى صنعت نجاح الثورة وهى التى أعادت مصر للمصريين بعد سقوط الرئيس المخلوع وعصابة اللصوص التى حكمت ونهبت مصر فى السنوات الأخيرة، ولذا فإن الشعب يريد القصاص العادل . إن الشرعية الثورية كانت تقتضى الإسراع بتقديم القتلة بداية من الرئيس المخلوع ومعه أركان نظامه ووزير داخليته ومعاونوه إلى محكمة ثورة دون انتظار لإجراءات التقاضى امام المحاكم المدنية والتى طالت بأكثر مما يجب وبما يثير الريبة. أما التعلّل بضرورة التريث فى المحاكمات.. ضمانا لعدالتها وضمانا لاسترداد المليارات والثروات المنهوبة والمهربة فى الخارج، فإنه يعد تعللا متهافتا خاصة فيما يتعلق بمحاكمة حبيب العادلى ومعاونيه من قتلة الشهداء، بل إن محاكمة حسنى مبارك ذاته أمام محكمة ثورة عاجلة للاقتصاص العادل منه على تلك الجريمة النكراء تتضاءل أمامها كل الثروة المنهوبة والتى بات مشكوكا فى استعادتها، إذ ان أرواح الشهداء من شباب مصر الأطهار اغلى وأعز من المليارات المهرّبة وسوف يبقى اكتمال الثورة أهم من استعادة تلك الثروة. *** وفى نفس الوقت فإن ما يجرى فى المشهد السياسى طوال الأشهر الخمسة الماضية ومنذ سقوط النظام السابق يدعو للأسى والأسف بقدر ما يدعو للدهشة، حيث بدت كل التيارات والأحزاب والقوى السياسية على اختلافها متصارعة على حصتها من السلطة القادمة وهى سلطة لم تتحدد معالمها بعد بل لم يتأكد حتى الآن توقيت الوصول إليها، وحيث انشغل الساعون للترشيح للرئاسة بجولاتهم ودعاياتهم الانتخابية وقبل الأوان بكثير، وحيث انشغلت النخبة بالجدل حول الدستور أولاً أم الانتخابات.. الكل انشغل بجنى ثمار ثورة لم يشاركوا فى صنعها وقبل اكتمال نجاحها، وقد غاب عنهم أن الثورة فى خطر محدق وداهم وأن النظام السابق مازالت أذنابه تنخر فى عظام ومفاصل الأمة لإفشال وإفساد الثورة. *** إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى انحاز للشعب وأكد أنه الضامن للثورة وتعهد بنقل السلطة إلى شرعية مدنية يرتضيها الشعب.. مطالب فى هذه اللحظة الحرجة من المرحلة الانتقالية باتخاذ أقصى ما يمكن اتخاذه من قرارات وإجراءات وتدابير عاجلة وحاسمة لحماية الثورة وتأمينها فى مواجهة مؤامرات فلول النظام السابق وميليشيات حزبه المنحل فى كل المواقع والمؤسسات وفى مقدمتها مؤسسة الشرطة باعتبار أن استعادة الأمن فى الشارع المصرى لن يتحقق إلا باعتقال مئات الآلاف من عناصر البلطجية الذين يمثلون أخطر مظاهرالانفلات الأمنى فى مصر وإذ لا يخفى أن الشرطة هى الجهة الوحيدة القادرة على الوصول إلى هؤلاء البلطجية. وتبقى المحاكمات العاجلة لقتلة شهداء الثورة دون إبطاء أو تأجيل مطلباً ملحا ومشروعاً يتعين على المجلس العسكرى تلبيته وأمرا له دلالته بالغة الأهمية التى تعنى اكتمال سقوط النظام السابق واجتثاثه من جذوره ومن ثم اكتمال نجاح الثورة. *** إن الشعب يريد القصاص العادل لشهداء الثورة.