على مدى سنوات طويلة صدَّعنا النظام البائد بمفهوم الاستقرار وضرورة الحفاظ عليه حرصاً على مصالح الوطن والمواطن .. الخ. هذه الاسطوانة المشروخة التى تحطمت تماماً مع خلع مبارك وسقوط نظامه، ثم فوجئنا الآن بمن يتحدث عن ضرورة الحفاظ على الاستقرار.. بنفس طريقة النظام البائد، وكأن زبانيته قد خرجوا من قبورهم السياسية.. لينفرّوا ويحذّروا ويهددوا ويتوعدوا، فمنهم من يرفض تغيير لائحة اختيار رؤساء الأندية الرياضية بحجة الحفاظ على الاستقرار.. استقرار الفساد! وحتى نضع مفهوم الاستقرار الفاسد فى إطاره الأشمل والأوسع.. يجب أن نعلم أن ذات الصيغة والرؤية كان يجرى تداولهما على نطاق إقليمى ودولى أوسع، فكنا نسمع دائماً عن استقرار منطقة الشرق الأوسط والاستقرار الدولى، وهذا الشعار كان مفهوماً ومقبولاً قبل اندلاع ثورات المنطقة.. ولكنه انهار مع تهاوى أنظمة الفساد والاستبداد.. بدءاً من تونس الخضراء.. وانتهاء بمن.. لا ندرى!! وحتى لا نشط ونتجاوز يجب أن نعترف أن الاستقرار ليس عيباً عندما يتحقق على أسس سليمة وراسخة.. وفى إطار نظام صحيح وانطلاقاً من مبادئ وقيم كل مجتمع.. بل فى إطار القيم والمفاهيم العالمية المتفق عليها.. مثل الحرية والعدالة والمساواة والشفافية.. هذا هو المفهوم الصحيح. ولكننا كنا نسمع ونشاهد تطبيقه فى مجالات مختلفة لحماية الفساد والمفسدين. كنا نسمع اسطوانة الاستقرار الأمنى.. وضرورة الحفاظ عليه وأن كافة الأوضاع تحت السيطرة الأمنية، نعم كان ذلك يحدث ولكن فى إطار جهاز فاسد ومفسد وبأيدى زبانيته الذين أطاحوا بكل القيم والمبادئ.. وعذبوا واعتقلوا الآلاف وقتلوا العشرات.. ومازالت ألغاز الكثيرين من الأبرياء الذين غابوا وراء الشمس أو تحت الأرض.. مازالت خافية.. وربما إلى الأبد، ومنهم الزميل الصحفى رضا هلال. هذا الاستقرار الفاسد الذى كان يمثله جهاز الأمن السابق ويعمل على تثبيته كان يحقق مصالح أصحابه وليس مصالح الشعب.. حتى أصبح ممارسة شائعة داخل هذا الجهاز الخطير.. وأصبح من النادر أن تجد شخصاً أمنياً مسئولاً لا يعمل لمصلحته أو لمصلحة النظام الفاسد الذى كان يمثله. ومع ذلك.. فوسط هذا الركام الكثيف من الفساد.. كنا نشاهد نماذج مشرفة.. لعل آخرها وأبرزها الشهيد محمد البطران الذى استشهد وهو يدافع عن سجن «القطا» ومازالت قضيته بحاجة إلى تفسير وإيضاح وتكريم يليق بمقام الشهيد. ظل النظام السابق يفرض علينا لغة الحفاظ على استقرار الأمن الغذائى، فلدينا دقيق يكفى لستة أشهر وزيت وأرز وسكر يكفى لشهر رمضان.. على سبيل المثال، وكان قمة طموحك أن يتوافر قوت يومك الأساسى.. وأن يظل المواطن البائس مربوطاً بدوامة لقمة العيش.. فهذا أقصى حدوده وأحلامه.! أما التفكير فى تطوير الوطن ونهضته فحكر على المافيا وكبار المستبدين. حتى مفهوم الاستقرار الثقافى (القراءة للجميع وكتاب الأسرة.. الخ) كلها كانت تدخل فى ذات الإطار: الحفاظ على استقرار الفساد، ومن الغريب أن أبرز المجالات التى تتطلب التغيير والحركة والإبداع هو الفكر والثقافة، وهما ضد مفهوم الاستقرار السلطوى الاستبدادى.. فلا إبداع لفنان أو كاتب أو شاعر مقهور ومكبوت.. بل أياد مرتعشة وقلم مقصوف.. ومكسوف! بل إن الإبداع فى كل المجالات (سياسة واقتصاد وتكنولوجيا.. الخ) يتناقض تماماً مع مفهوم الاستقرار الذى كان سائداً.. فأصبح بائداً.. وعندما ننظر إلى هذا المفهوم من زاوية أخرى.. فإننا نلاحظ أن التناقض الحاد بين استقرار الفساد والثورة.. فى أى زمان ومكان، فالثورة جاءت من أجل إحداث تغيير جذرى فى الفكر ونظام الحكم وهياكل الإدارة، وبالتالى فإن منطق الفاسدين الجدد الذين يعيدون ذات اللغة القديمة قد سقط.. ويجب أن يسقطوا هم معه.. طوعاً.. أو كرهاً! ولعلنا نتذكر ذرائع دعاة استقرار الفساد.. ومنها الحفاظ على نجاح المؤسسات!! فهناك مؤسسات ناجحة بحكم تاريخها وارتباطها بالنظام الفاسد السابق وتحالفها معه عضوياً.. فاستفادت منه اقتصادياً ومالياً.. وداخلياً وخارجياً، وهذه الفرصة (غير العادلة) لم تتح لغيرها من المؤسسات والشركات التى لم تدخل فى ركاب الفساد وبالتالى حققت بعض المؤسسات نجاحاً نتيجة ظروف غير طبيعية، ولم تعد حجة الحفاظ على النجاح ذريعة كافية لاستمرار رؤوس الفساد فى مواقعهم حتى الآن، بل الأسوأ من ذلك أن بعض هذه الرؤوس الفاسدة مازال يحكم ويتحكم فى مؤسسات خاسرة وفاشلة وآيلة للسقوط، ومازال هؤلاء فى مواقعهم حتى الآن!! وظل النظام البائد يصدعنا بضرورة الحفاظ على استقرار نسيج الأمة ووحدتها الوطنية.. خاصة بين مسلميها وأقباطها، ولكنه فى الحقيقة هو الذى صنع كل أسباب الفتنة والاحتقان بين أبناء الوطن الواحد، ولا يمكن علاج هذه القضية الخطيرة بدفن الرؤوس فى الرمال.. بل بمعالجتها بوضوح وصراحة وشفافية وفى إطار القانون.. أيضاً امتد مفهوم الفساد المستقر والمستمر إلى القيم والتقاليد وضرورة احترام الكبار.. وهذه نغمة غريبة ومريبة.. فهل احترام الكبير يعنى أن نرضى عن فساده واستبداده؟! هل احترام الكبير يعنى أن نتركه يسرق وينهب ويتلاعب بمصالح البلاد والعباد؟. وهل احترام التقاليد والأعراف يتعارض مع قيم المساواة والشفافية والعدالة والحرية؟!.. أخيراً.. ظل النظام السابق يذيع وينشر ضرورة الحفاظ على مصلحة الوطن والمواطن حاول أن يرسخ هذا المفهوم.. دون جدوى.. فهؤلاء الفاسدون البائدون كانوا يعملون من أجل استقرار مصالحهم فقط.. وتعظيم مكاسبهم وأرصدتهم وممتلكاتهم.. داخل مصر وخارجها، أما مصلحة الوطن والمواطن.. فلم تدخل فى حساباتهم على وجه الإطلاق. ونحن نشاهد الآن مظاهر عديدة لاستقرار الفساد.. لعل أبرزها فى المحليات وجيشها الذى يضم عشرات الآلاف ويسيطر عليه فلول الحزب الوطنى.. حتى الآن، بل إن أحد هذه المجالس رفض إطلاق اسم أحد الشهداء على أحد الشوارع.. بحجة أنه قتيل وليس شهيداً!! ونفذ هؤلاء الفاسدون سلطتهم على أرض الواقع!! ونحن لا نتجاوز عندما نقول إن شريحة واسعة من الإعلام المصرى وليس القومى وحده.. مازال يحفل بذيول وأذناب النظام البائد.. فمازالت الوجوه هى هى.. والأصوات هى هى.. بل العقول المريضة والأفكار الفاسدة هى هى.. هى المسيطرة على الإعلام وصوتها يصم الأذان.. يريدون أن يخدعوا الناس ويجتهدوا لإقناعنا بأن آراءهم هى الأصوب والأصح ويجب أن يتبعوها ويسيروا وراء هذه الأبواق المريضة، ولكن الشعب أوعى وأذكى.. وسوف يفاجئهم فى صناديق الانتخابات.. كما فاجأهم فى الاستفتاء!