سبحان مغير الأحوال.. ففى بداية الثمانينات من القرن الماضى، وبعد تولى الرئيس مبارك مسئولية الحكم خلفا للرئيس السادات- أحال جهاز المدعى الاشتراكى عصمت السادات وأسرته إلى محكمة القيم طالبا فرض الحراسةعلى ثروتهم لقيام دلائل جدية على تضخمها وجمعها بطرق غير مشروعة. وفى أثناء المحاكمة تقدم عصمت السادات بمبادرة للتنازل عن أمواله (122 مليونا) مقابل حفظ القضية أو لحين انتهاء المحاكمة وظهور براءته، وبالطبع لم تقبل محكمة القيم مبادرة عصمت وقضت بفرض الحراسة على أمواله لمدة خمس سنوات طبقا لنصوص قانون المدعى الاشتراكى وقتها. ومرت الأيام.. ودارت الأيام وقرأنا وسمعنا عن حرم الرئيس السابق السيدة سوزان مبارك تتقدم بمبادرة لجهاز الكسب غير المشروع بالتنازل عما أوردته الأجهزة الرقابية فى شأن ملكيتها له، وهى فيلا بمصر الجديدة وحساب بأحد البنوك به 24 مليون جنيه، خاصة بعد أن عجزت عن إثبات مصادر هذه الأموال سوى أنها أموال تبرعات وضعت فى حسابها للصرف منها على الأنشطة الاجتماعية التىتقوم بها، بينما أثبت محاميها أن الفيلا مملوكة لرئاسة الجمهورية. وبالطبع أثارت مبادرة سوزان جدلا قانونيا وشعبيا كبيرا، لأنها تطرح الكثير من التساؤلات ومنها: هل المبادرة تعفيها من العقاب؟ وماذا لو كانت تلك الأموال ناتجة عن جنح أو جنايات تستوجب المساءلة الجنائية؟ بداية تجدر الإشارة إلى أن جهاز الكسب غير المشروع حقق مع السيدة سوزان ثابت وأصدر قرار احترازيا بمنعها من التصرف فى أموالها، وعندما فشلت فى تقديم مبررات مقنعة عن مصادر تلك الأموال قرر حبسها 15 يوما على ذمة التحقيقات، ولكن عندما تنازلت عنها بتوكيلات موثقة بالشهر العقارى أفرج عنها الجهاز لحين الانتهاء من تحقيقاته، خاصة أنها وقعت على إقرار بالموافقة على الكشف عن جميع حساباتها المصرفية بالداخل والخارج، وإذا كان البعض يرى أن التنازل عن الأموال هو تصرف (رضائى) حيث يجوز لأى شخص التنازل عن أمواله كلها أو بعضها لأى شخص أو جهة يحددها خاصة أن قرار المنع من التصرف هو مجرد إجراء مؤقت، فهو يمنع الشخص فقط من إدارة أمواله أو التصرف فيها، وإنما لا يسلب حقه فى ملكيتها. بينما يرى البعض الآخر أن سوزان ثابت ممنوعة من التصرف فى أموالها ومن ثم لا يجوز لها التنازل عنها. على أية حال.. وإذا كان المبدأ العام أنه لا جريمة إلا بقانون ولا عقوبة إلا بنص، فقانون العقوبات فى الباب الرابع منه والخاص بالاعتداء على المال العام سواء بالاختلاس أو الاستيلاء أو التربح ينص فى مواده أن يكون المعتدى أو المتربح موظفا عاما أو فى حكمه.. والسيدة سوزان ثابت لم تكن «موظف عام» وتقول إنها لم تكن تتقاضى أيه مبالغ مالية من نشاطها العام. إذن تبقى المساءلة طبقا لقانون الكسب غير المشروع والذى يحاكم الأشخاص سواء كانوا موظفين أو نوابا أو مكلفين بخدمة عامة عن تضخم أموالهم وعجزهم عن تقديم مصادر مشروعة لهذا التضخم. وأعتقد أن السيدة سوزان ثابت تدخل تحت عباءة نصوص هذا القانون لأنها كانت تترأس العديد من الجمعيات الأهلية والمجالس القومية.. وهذه الجمعيات والمجالس أموالها تعد أموالا عامة، فضلا عن جواز تربحها من صفتها باعتبارها حرم رئيس الجمهورية. ومع ذلك فالقانون ذاته والذى يحاكم الشخص عن التضخم الطارئ فى ثروته بعد تولى الخدمة العامة أو قيام الصفة وبشكل لا يتناسب مع الموارد المعروفة وعجز الشخص عن إثبات مصدر مشروع لتلك الأموال.. هذا القانون ذاته يتيح فى المادة 19 منه الإعفاء من العقوبة المقررة للجريمة مع الالتزام برد الأموال فى كل الأحوال. وهذا بالضبط ما فعلته السيدة سوزان وما قبله منها جهاز الكسب غير المشروع، حيث بادرت بالتنازل عما كشفت عنه الأجهزة الرقابية ووافقت على الكشف عن حساباتها المصرفية فى الداخل والخارج واستعدادها للتنازل عما قد يوجد بها من أموال. ومن المعروف أن بعض القوانين المصرية تتيح التنازل والتصالح فى بعض الجرائم وخاصة الاقتصادية منها كجرائم حيازة النقد الأجنبى والتعامل فيه، والتهرب الجمركى، ومؤخرا قضايا قروض البنوك والشيكات بدون رصيد، حيث يمكن لمرتكب هذه الجرائم التصالح مع جهة الاختصاص فى أى مرحلة من مراحل القضية على أن يتم التصالح والتنازل قبل صدور حكم نهائى فى الدعوى. والمعنى أنه من حق السيدة سوزان ثابت التصالح مع جهاز الكسب غير المشروع بعد أن بادرت بالتنازل عما أسند إليها من أموال، وهو العرض الذى وجد إيجابا وقبولا من قبل الجهاز وأفرج عنها بدون ضمان، مع ملاحظة أن التحقيقات لم تنته بعد، وحسبما أوضح رئيس الجهاز أن البحث جار عما إذا كانت تربحت من صفتها زوجة رئيس جمهورية من عدمه، وحول ما إذا كانت هناك جرائم أخرى ارتكبتها هذه السيدة من عدمه بمناسبة جمع هذه الأموال المتضخمة والتى عجزت عن إثبات مواردها المشروعة، خاصة أنه أكد أن لا أحد فوق القانون والذى يطبق على الجميع، فتحقيق العدالة هى الغاية التى يرجوها الجميع. *** ما تقدم كان حول مبادرة السيدة سوزان.. فماذا عن اعتذار الرئيس السابق؟ يجب التأكيد أولا أننا لسنا سلطة تحقيق ولا محاكمة وما نقوم به هو مجرد عرض ومناقشة الأحداث الساخنة التى تجرى فى الشارع المصرى حتى يفهم الرأى العام ما يحدث من حوله. وهناك النيابة العامة ومن بعدها القضاء ولهما السلطة الكاملة فى تقدير ما يعرض عليهم وبيان جديته من عدمه، ومدى تحقيقه للمصلحة العامة أو تعارضه مع قوانين سارية واجبة التطبيق على كل من يخالفها. وفى هذا الإطار فقد عرض الرئيس السابق فى خطاب - أذيع على قناة العربية- استعداده لتفويض الجهات المعنية بالكشف عن حساباته بالداخل والخارج، مؤكدا أنه لا يملك سوى ما استطاع ادخاره من مصادر مشروعة. والمعنى أنه إذا ثبت أن له حسابات داخلية أو خارجية غير معلنة ووجد بها أموال معينة، فسوف تعد أموالا مهربة وكسب غير مشروع ووجب مصادرتها فلماذا لا تستفيد البلاد من تلك (المبادرة) وتحاول استرداد تلك الأموال إن وجدت؟ أما فيما يتعلق بما تردد عن نية الرئيس السابق الاعتذار للشعب عما قد يكون ارتكبه من جرائم فى حقه أو تسبب فيه من فساد مالى وسياسى.. ففى رأيى أن الاعتذار مطلوب فى كل الأحوال.. أما قبول هذا الاعتذار من عدمه فمتروك لضحايا النظام السابق.. وخاصة أهالى شهداء ميدان التحرير!