لم يكن أكثر المصريين تفاؤلاً يتوقع ما حققته وفود الدبلوماسية الشعبية لدول حوض النيل.. خاصة أثيوبيا التى بدت متجاوبة ومتفهمة للأوضاع الجديدة التى تشهدها مصر بعد ثورة 25 يناير، فقد أعلن رئيس وزرائها «ميليس زيناوى» تأجيل التصديق على الاتفاقية الإطارية الجديدة لدول حوض النيل إلى ما بعد انتخابات الرئاسة المصرية، كما أعلن تشكيل لجنة من خبراء مصر وأثيوبيا والسودان لدراسة آثار السدود الجديدة على حصص هذه الدول. ولكن هذه النتائج رغم إيجابياتها وثمراتها غير المتوقعة لم تتجاوز مستوى الوعود والتصريحات الودية غير الموثقة رسمياً أو قانونياً، فهناك فارق كبير بين إطلاق تصريحات للاستهلاك الإعلامى.. أو لتهدئة النفوس والخواطر.. وبين الالتزامات القانونية الدولية القاطعة.. غير القابلة للتأويل أو التلاعب. ومن هذا المنطلق.. فإننا نبدأ مناقشة هذه الالتزامات وفقا لنص الاتفاقية الإطارية الجديدة لحوض النيل التى وقعت عليها أغلب دول الحوض.. وفى مقدمتها أثيوبيا. فالبند الثالث عشر فى الاتفاقية يتناول «حماية حوض النيل والمنشآت ذات الصلة فى حالة النزاعات، هذه الحماية تمنحها مبادئ وقواعد القانون الدولى المطبقة فى النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية.. لاسيما قواعد القانون الإنسانى الدولى ويجب ألا تستخدم فى انتهاك هذه المبادئ والقواعد». هذا هو نص البند الثالث عشر فى الاتفاقية «المشكلة» التى أثارت الأزمة.. ووفقا لهذا البند فإن هناك اعترافاً وإقراراً بعدة حقائق: * احتمال نشوب «نزاعات مسلحة» بين دول حوض النيل هذا واقع يجب ألا نتجاهله.. وقد شهد التاريخ الإنسانى – منذ بزوغه – نزاعات مسلحة على الماء والكلأ والمرعى.. بغض النظر عن تطور أشكال ووسائل استغلال هذه الموارد البشرية الحيوية، وأغلب الحروب نشبت عبر التاريخ بحثاً عن نقطة ماء.. أو لقمة عيش! بمعنى آخر.. فهذا الملاذ الأخير احتمال وارد.. ويجب أن نكون مستعدين له.. وألا ندفن رؤوسنا فى الرمال ونقول إنه مُحال، حتى مع إسرائيل لا يوجد ما يُسمى «السلام خيارنا الاستراتيجى الوحيد».. لأن إسرائيل نفسها قامت على الحرب.. ولم تنقطع عنها.. وتتأهب لها بكل قوة وبكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة. * إن الاتفاقية الإطارية الجديدة للنيل أقرت باللجوء إلى قواعد القانون الدولى فى حالة نشوب نزاعات مسلحة.. كما أكدت ضرورة حماية حوض النيل والمنشآت ذات الصلة فى حالة النزاعات.. بمعنى آخر.. فإن قواعد واتفاقات القانون الدولى التى وقعت عليها مصر ودول حوض النيل تعتبر مرجعاً مهماً يمكن الاستناد إليه فى حالة اختلاف تفسيرات النصوص.. أو فى حالة نشوب نزاع مسلح. وفى هذا الإطار يجب أن تدخل الاتفاقات النيلية القديمة فى الاتفاقية الإطارية الجديدة.. بدءاً من اتفاقية 15 أبريل 1891 التى وقعت عليها بريطانيا وإيطاليا.. ثم اتفاقية أديس أبابا 15 مايو 1902، واتفاقية لندن 13 ديسمبر 1906، واتفاقية روما 1925.. وكلها تؤكد حقوق مصر التاريخية فى مياه النيل وعدم إنشاء أى مشاريع تضر بحصة مصر من النهر، ثم اتفاقية 1929 بين مصر وبريطانيا التى كانت تمثل السودان وأوغندا وتنزانيا..ونصت على ذات المبدأ: عدم المساس بمصالح مصر فى النيل.. وأخيراً.. اتفاقية 1959 التى حددت حصة مصر فى النهر بنحو 55 مليار متر مكعب ووقعت هذه الاتفاقية مصر والسودان. هذه اتفاقيات دولية معترف بها.. وكلها تؤكد حق مصر فى مياه النهر وعلى ضرورة التنسيق بين دول النيل وعدم المساس بمصالحها المائية.. ووفقاً لقواعد القانون الدولى.. فإن هذه الاتفاقيات ملزمة ويجب أن تدخل فى الاتفاقية الإطارية الجديدة.. أو أن يتم تعديل الاتفاقية الجديدة بما يتوافق مع مصالح كل الأطراف.. وإذا كانت الاتفاقية الجديدة تدعو للالتزام بقواعد القانون الدولى.. فمن باب أولى أن تلتزم بالاتفاقية القديمة التى قامت على أساس القانون الدولى. * أيضاً أكدت الاتفاقية الإطارية الجديدة للنيل على أن الدولة التى ينشأ داخل أراضيها طارئ عليها التعاون مع الدول التى من المحتمل أن تتأثر به.. مع «المنظمات الدولية المختصة» عند الضرورة، وكذلك اتخاذ التدابير العملية الفورية التى تقتضيها هذه الظروف لمنع وتخفيف الآثار الضارة لها عند حدوث حالة الطوارئ! بمعنى آخر.. فإن الاتفاقية الإطارية أقرت بمبدأ الاستعانة بالمنظمات الدولية المتخصصة لحل أية مشكلة داخل دول حوض النيل، وهناك عدة مستويات من هذه المنظمات: منظمات إقليمية مثل «الاتحاد الأفريقى» والجامعة العربية و «المؤتمر الإسلامى».. وكلها تتقاطع وتتلاقى لتشمل بعض أو كل دول حوض النيل، وهى تمثل محافل جيدة لإثارة ومناقشة هذه المشكلة.. بروح ودية وعقول منفتحة واستعداد إيجابى لحلها.. بعيداً عن المساومات والضغوط والألاعيب المكشوفة! المنظمات الفنية المتخصصة.. مثل منتدى دول حوض النيل ومبادرة حوض النيل (NIB). فهذه المنظمات (الأصلية والرسمية) تحظى بالكثير من الخبراء والكوادر والدراسات المهمة التى تستطيع حل المشاكل الفنية وتنفيذ مشروعات تزيد عوائد النهر أضعافاً مضاعفة.. خاصة أن النيل السخى يقدم لنا ما يزيد على 1600 مليار متر مكعب.. إضافة إلى أكثر من ألف مليار متر مكعب من نهر الكونجو، وكلاهما يقدمان لأبناء القارة السمراء أنهاراً حافلة بالخير تكفيها وتكفى العالم بأسره!! فقط نريد رؤية علمية عملية جادة ومتجردة من كل الأهواء والحسابات والدوافع الخفية، عندئذ لن نختلف على 15 مليارا أو 50 مليارا ولا حتى 200 مليار متر مكعب!! المنظمات التمويلية.. مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، واعتقد أنهما مازالا يتخذان موقفاً رسمياً (حتى الآن) من تمويل مشاريع وسدود النيل الجديدة.. إلى أن يتم التوافق بين دول حوض النهر، ولكن هذا الموقف لن يستمر طويلاً.. وقد يتغير بعد توقيع أغلبية دول النيل على الاتفاقية الإطارية الجديدة التى ستصبح نافذة قانوناً. أيضاً هناك دول تمول مشاريع فى حوض النيل.. خاصة الصين والهند.. إضافة إلى بعض الدول الغربية.. ونحن نقول لأصدقائنا الصينيين والهنود تحديداً إن مثل هذه المشاريع ليست مجرد صفقات تجارية تعود بالفائدة على شركائكم، ولكنها مشاريع استراتيجية تضر بتحالفكم وعلاقاتكم التاريخية مع مصر تحديدا. فالمسألة ليست أرباحاً وعوائد تقتنصها هذه الشركات (صينية كانت أو هندية) بل تحولات سياسية استراتيجية تجب دراسة جدواها وآثارها بدقة بالغة. أخيراً.. هناك المنظمات القانونية والمحاكم الدولية التى يمكن اللجوء إليها كملاذ أخير.. إذا فشلت كل الوسائل السابقة.. لا قدر الله.. ورغم الثقة والتفاؤل اللذين يسودان الأجواء بعد زيارات الوفود الشعبية إلى أثيوبيا وأوغندا والسودان.. فإننا يجب أن نستعد لكل الاحتمالات.. وأسوأ الاحتمالات، هكذا تفرض علينا الرؤية الواقعية والتقييم الموضوعى الدقيق.. حفاظاً على مصير وبقاء أرض الكنانة.