حقيقة إن مشكلة الفساد قد انتشرت بشكل واسع فى الدول النامية، إلا أنها توسعت أيضاً فى الدول المتقدمة، وأكبر دليل على ذلك ظهور كتابين حملا عنوان «ميتران.. وال 40 حرامى» وآخر لنفس الكاتب «جون مونتالدو» يحمل عنوان «شيراك.. وال 40 كذاب»، تناولا عددا من القضايا والملفات التى جمعت ما بين رجال السياسة ورجال المال. إن الازدياد فى الانتشار الواسع لظاهرة الفساد فى الدول النامية جاء نتيجة التحولات الدولية الكبيرة التى شهدها العالم فى العقد الأخير من القرن العشرين، حيث إن تقرير الجغرافية السياسية للعالم فى الفترة ما بين عامى 1998 و 1999 أوضح أن ظاهرة تبييض الأموال ازدادت بعد انهيار الاتحاد السوفيتى مع ازدياد مظاهر العولمة، الأمر الذى أدى إلى التسارع والنمو الكبيرين فى الوقت الذى كان فيه الاقتصاد الغربى مستمراً فى تحقيق المنافع المادية الكبرى خاصة من الأموال القذرة، إذ وجد الاقتصاد الغربى فى دول الجنوب ما يمكنه من تبييض رؤوس الأموال وإعادة استثمارها بشكل جديد.. فى كتابه الأول تناول الكاتب عدداً من قضايا الفساد التى تورط فيها الرئيس الفرنسى الراحل «فرانسواه ميتران» وبعض المقربين منه الذين جمعوا ثرواتهم عبر الاحتيال والتزوير، اعتمد مونتالدو على عدة تقارير ووثائق ومستندات أثبتت أن هناك حوالى مائة مسئول فى الشركات الفرنسية الكبرى خضعوا للتحقيقات بسبب صفقات غامضة وعمليات متاجرة مشبوهة كان أهمها تلك التى تم فيها القبض على مدير مجموعة شنايدر للصناعات الثقيلة ومقرها بلجيكا، كما تعرض الكاتب لما عرف بفضيحة جوزفين وكذلك صفقة مالية كبرى بين فرنسا وإحدى الدول الخليجية، وذلك تحت ستار بعض السماسرة الأمريكيين قدرت بحوالى 1.1 بليون دولار. عرف الكاتب مونتالدو بشجاعته البالغة ليس فقط لتخصصه فى القضايا الخطيرة الشائكة، ولكن أيضاً لأنه قام بنشر كتابه عن ميتران فى عام 1994، بينما كان الرئيس الراحل على قمة السلطة حيث باع الكتاب أكثر من مليون نسخة، ولاقى رواجا واسعا لدى الشعب الفرنسى الذى تساءل عمن يقف وراء الذى عكف على كشف ما سمى ب «الفساد الاشتراكى» إذ اعتمد الكاتب على أسلوب جاذب للقارئ باختراقه عالم السلطة الملىء بالفساد والعمالة والقتل، بدءاً من عملية انتحار «فرانسواه جروسوفر»، أحد المقربين من ميتران وكاتم أسراره عندما عثر عليه مقتولا فى مكتبه بقصر الإليزية، فمن الراجح أنه قد تمت تصفيته وذلك لعدة أسباب، أولاً أنه لم يتم التحقيق جديا فى الواقعة، وعندما حاول أولاده ذلك تم تهديدهم من قبل مجهولين، ثانياً اختفاء الأرشيف والأوراق والملاحظات الخاصة بالرئيس ميتران، ثالثاً اختفاء المذكرات الخاصة بالقتيل، رابعاً أثبت الطب الشرعى وجود خلع بالكتف اليسرى للضحية الأمر الذى يرجح أنه قد أجبر على البقاء فى مقعده بالقوة قبل القضاء عليه، خامساً لم يسمع صوت الطلق النارى من قبل الحرس الخاص، سادساً توتر العلاقات بين الضحية وطبقاً لرواية المقربين، سابعاً اعتراف الضحية فى أيامه الأخيرة بأنه سوف يقتل، ثامنا فى فترة حكم ميتران تمت أيضاً تصفية فيليب برولوه أحد المقربين بالإليزية عندما وجد بالقرب من منزله مقتولاً بطلق نارى وقيل أيضا إنه انتحر، كما فتح الكاتب ملفات فساد تورطت فيها عدة دول مثل باكستان وكوريا ولبنان والمغرب ودول الخليج وبعض الدول الأفريقية من بينها مذبحة رواندا، أى تلك الأمور التى عرفت بالمهام الدبلوماسية السرية. استعار الكاتب فى الكتابين الأسطورة «على بابا وال 40 حرامى»، وعندما تناول الرئيس السابق جاك شيراك تحدث الكاتب عن الفساد المالى والإدارى الوظيفى حيث استغل الرئيس الفرنسى السابق سلطاته وصلاحياته لمصلحة مؤيديه السياسيين فى الحزب، فكتب يقول: «كنت أرى فى شيراك ومعظم حزبه.. فرنسا الضعيفة البعيدة عن الشرف بسبب ما ارتكبه الساسة من فساد.. حيث كانت السلطة ملكا للشيطان». كما كشف مونتالدو عن عملية فساد كبرى تخص شركة بترول معروفة باسم ترافيجورا برعت فى عمليات الفساد السياسى والمالى، تماما مثل فضيحة شركة بروكو - كووالا التى تفجرت فى شهر سبتمبر عام 2006، إذ كانت شركة البترول هذه تتحكم وتسيطر على 50% من شركة كونتيك المتمركزة فى جزر ال باهاما. كما كشفت هذه الملفات السوداء لأروقة الحكم فى فرنسا أسرار تحوم حول طبيعة عمل البنوك السوفيتية بالبلاد. وعلى عكس ما كان يظن الكاتب أن فرنسا يمكن أن تتغير تحت حكم شيراك، أى من النظام الاشتراكى إلى النظام اليمينى، إلا أن الأمر ازداد فسادا. مؤكداً أن التلميذ شيراك قد تفوق على أستاذه ميتران، إذ كتب يقول مثل الملايين من الفرنسيين ظننت أن شيراك يمكن أن يكون منقذا للبلاد، إلا أن الفساد فى عصره بلغ مداه، كما وصف الكاتب فرنسا بأنها أمة تحتضر بعد أن وقعت وسط براثن الثراء الفاحش للساسة والوزراء وأعضاء البرلمان والنخبة وكبار موظفى الدولة وكل من هم على رأس المؤسسات والهيئات الكبرى، حيث قال لم يكن شيراك إلا قبطانا لهذه الآلة العملاقة من الغش والفساد التى استولت على خيرات وذهب فرنسا. فإذا كان الرئيس الفرنسى الراحل ميتران قد أفلت من المثول أمام القضاء، إلا أن الرئيس السابق شيراك تم التحقيق معه الأسبوع الماضى فى تهم فساد متعددة، وقد أثبتت الإحصاءات أن 71% من الفرنسيين يؤيدون محاكمة الرئيس السابق، بينما هناك 30% لا يرون ذلك وهكذا يصبح شيراك ثالث رئيس فرنسى يقف أمام العدالة، هذا بعد الملك لويس السادس عشر، والرئيس الفرنسى الراحل فيليب بتان.