تشهد محكمة ميلانو هذه الأيام أكبر قضية للفساد في إيطاليا في العقود الماضية حيث يحاكم كالستوتانزي Tonzi رئيس ومؤسس شركة بارملات الإيطالية العملاقة Parmalat والتي كانت تعد واحدة من أكبر شركات الأغذية المحفوظة في العالم وانهارت تماماً منذ عامين. والاتهامات الموجهة إلي رئيس الشركة تدور حول الغش والخداع في الأسواق المالية العالمية وإعطاء معلومات وبيانات غير صحيحة والتلاعب في البورصة، وقد أدت هذه الفضيحة المتشعبة إلي سلب مدخرات حوالي 100 ألف مساهم إيطالي وتقدر بالمليارات من الدولارات، كما أدت تداعياتها إلي اعتقال ومحاكمة عدد من كبار قيادات البنوك وشركات التأمين الإيطالية. وجاءت فضيحة شركة بارملات الإيطالية بعد فضيحة شركة آنرون الأمريكية والتي كانت تعد واحدة من قلاع الشركات العاملة في الطاقة في الولاياتالمتحدة وفي العالم كله، فتفتح من جديد الملفات الساخنة الخاصة بعمق الفساد والخداع في النظام الاقتصادي العالمي القائم والذي أطلق عليه رئيس منتدي دافوس نفسه بنظام الرأسمالية المتوحشة. وحين تنهار شركات عالمية مثل بارملات الإيطالية وآنرون الأمريكية فلابد وأن يتحسس العالم كله رأسه، فالشركتان تمثلان قمة الشركات الكبري متعددة الجنسيات التي تتحكم في الاقتصاد العالمي، حيث تقول الإحصائيات إن 30 شركة من الشركات المتعددة الجنسيات من بينها الشركتان الإيطالية والأمريكية تسيطر علي حوالي 40% من التجارة العالمية. وشركة آنرون الأمريكية كانت واحدة من أكبر الشركات العاملة في الطاقة في العالم كله، كما أن شركة بارملات كانت تعد أكبر الشركات العالمية علي الاطلاق في تصنيع المواد الغذائية، وفي الحالتين ألقي القبض علي رئيس مجلس الإدارة وعدد كبير من القيادات في البورصة والبنوك بعد أن تبين أن هناك تلاعباً كبيراً في المدخرات وأموال المستثمرين، وتقديم معلومات غير صحيحة والتلاعب في البورصة وفي أموال الدعم والاتفاقات المبرمة تصل إلي عشرات المليارات من الدولارات. ويطلق الاقتصاديون علي فضيحة شركة بارملات الإيطالية بأنها أكبر عملية نصب وفساد في التاريخ المالي والاقتصادي ليس فقط في إيطاليا بل وفي أوروبا وأمريكا، واتصفت أعمال النصب والخداع بالفجاجة والوقاحة والجرأة، ومن هذه الأمثلة إيداع حوالي 13 مليار دولار في بعض البنوك من الناحية الاسمية والشكلية فقط دون أن يكون هناك إيداع أو حتي رصيد حقيقي. والشركة مثلها مثل الشركات الإيطالية الكبيرة هي شركة عائلية مثل شركة فيات التابعة لعائلة آجنلنس وشركات ميدياست التابعة لسلفيوبرلسكوني رئيس وزراء إيطاليا. ويقول المعلق الاقتصادي الإيطالي المعروف أنديا بالاديني إن فضيحة بارملات جاءت تنيجة القوانين المطبقة في إيطاليا والتي تساعد علي الفساد خاصة أن السنيور سلفيوبرلسكوني رئيس الوزراء الحالي قد خفف كثيراً من القيود والرقابة التي كانت مفروضة علي الشركات، كما أنه مازال يعطل مشروعات تقدمت بها الأحزاب المعارضة إلي البرلمان لتأكيد الرقابة علي أعمال الشركة الخاصة والعامة. والمعروف أن برلسكوني نفسه متهم في عدد من قضايا الفساد المعروضة علي المحاكم الإيطالية والدولية خاصة التهمة المتعلقة بارتباطات مشبوهة بين عدد من قيادات الشركات التابعة له مع رجال المافيا. وتواكبت هذه الفضائح مع التقرير الذي أصدرته منظمة الشفافية العالمية في لندن والذي أكد استشراء الفساد في النظام الاقتصادي العالمي القائم، وكشف التقرير عن حقائق ووقائع صارمة منها أن هناك خمسة من كل عشر دول نامية تعاني من نسبة فساد عالية = أكثر من 25% من حجم الناتج المحلي، كذلك ازدادت نسبة الفساد بشكل مطلق ونسبي في كل الدول الصناعية الكبري نتيجة ازدياد نسب الرشاوي والأموال المدفوعة في الخفاء والتي تقدمها شركات كبري عاملة في مجالات حيوية مثل الطاقة والغذاء وسجل التقرير زيادة ملحوظة في نسب الفساد أي ما يسمي بالاقتصاد الرمادي في إيطاليا والولاياتالمتحدة وفرنسا وروسيا. واقتصاديات الظل، أو ما يطلق عليه بالاقتصاد الرمادي أو الخفي ويشمل الأنشطة غير المشروعة مثل التهريب والرشوة وتجارة المخدرات والجنس والسلاح وغسيل الأموال والتهرب من الضرائب. وقد لاحظ كثيرون ومنهم اقتصاديون رأسماليون بارزون ازدياد نسب اقتصاديات الظل وبشكل كبير بعد انهيار الثنائية القطبية وسقوط وتفكك الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي وانفراد الرأسمالية المتوحشة بالسوق العالمي وشعاراتها في العولمة الجديدة وفتح الحدود بلا قيود أمام الاستثمار بجميع أشكاله وألوانه وفي المنافسة الشرسة التي تتجاوز في تطبيقاتها أحياناً كل القيم الإنسانية المعروفة. ولما كانت اقتصاديات الظل هي اقتصاديات غير منظورة لذلك تتضارب حولها الإحصائيات وتتفاوت خاصة أن العاملين في هذا القطاع ليسوا فقط تجار المخدرات والمرتشين واللصوص والمهربين وقراصنة الانفتاح وعصابات المافيا بل أصبح مجالاً لنشاط أصحاب المليارات ورجال الأعمال والبنوك والبورصات الدولية، ثم والأهم عن ذلك علاقة التشابك والتداخل مع السياسيين وبعض القيادات الحزبية العليا والحاكمة. واقتصاديات الظل طرقت في السنوات الأخيرة مجالات جديدة مثل صفقات الإنترنت المريبة وتجارة الأطفال وقطع الغيار البشرية وغسيل الأموال بل وتجارة الإرهاب، وهي أحدث صيحة في هذا المجال خاصة بعد أن ثبت أن العصابات المنظمة والدولية والعاملة في تهريب اليورانيوم والماء الثقيل وغيرها من مكونات أسلحة الدمار الشامل يرتبط بعضها بعلاقات وثيقة لبعض الجماعات الأصولية والمتطرفة دينياً وعرقياً. ويعتبر التهرب الضريبي أكثر الأساليب شيوعاً في اقتصاديات الكل في دول العالم الثالث وفي الدول المتقدمة صناعياً علي حد سواء حيث تزداد الفجوة علي النطاق العالمي كله بين الأقليات الغنية والمسيطرة وبين القواعد الواسعة من الشرائح الاجتماعية الوسطي والصغيرة، وتبدو هذه الهوة واضحة فاضحة في دول العالم الثالث بشكل خاص، حيث يتحمل الفقراء والمنتجون في الأساس العبء الرئيسي في الضرائب المباشرة وغير المباشرة. وقد أوضحت محاكمات الشركتين الكبيرتين بارملات الإيطالية وأنرون الأمريكية أن اقتصاديات الظل في الدول الصناعية الكبري تجري بتخطيط من بعض قيادات هذه الشركات الكبيرة المتعددة الجنسيات ورجال المافيا والجريمة المنظمة. وإلي أي مدي يستمر ويتواصل قطار الرأسمالية الشرسة والجامحة والذي أدي وسيؤدي مع استمراره إلي نتائج وخيمة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً؟!