وسط جماهير المتظاهرين ووسط الحزن والآلام بفراق الشهداء تفجرت السخرية وانطلقت النكات، وهى عادة الشعب المصرى الذى دائما ما يتمتع بروح السخرية والدعابة، وإن لم يجد ما يسخر منه فيسخر من نفسه، وبعيدا عن تسلسل الأحداث من يوم 25 يناير وحتى الآن فإن ما حدث يحتاج إلى وقفة تأمل، وإلى تفسير نفسى لطبيعة هذه المظاهرات نفسها ولما أطلق بها من لافتات ومنشورات ثم نكات وهو ما نحاول أن نتعرف عليه من خلال أطباء علم النفس واستشاريى الطب النفسى وعلماء علم الاجتماع. فى البداية يؤكد الدكتور ماجد موريس استشارى الطب النفسى بمعهد الطب القومى بدمنهور أن تلك اللافتات الساخرة التى كان يرفعها المتظاهرون هى أحد أساليب التفريغ عن الصراعات الداخلية بطريقة «العدوان السلبى» وهو يتسق مع طبيعة الشعب المصرى ويحقق الغرض منه فى توصيل رسالة واضحة، فالمواطن بهذه الطريقة يحاول أن يعلو على الموقف لأنه لو واجه الموقف مباشرة سيكون أضعف لأنه غير مسلح، ولذلك يلجأ للمواجهة غير المباشرة فيكون هو الأقوى.. وهى حيلة جميلة لأنه كان يخاطب الأقل منه، وفى نفس الوقت يحقق الغرض وهو التعبير عن الغضب. ويضيف د. ماجد موريس أنه لابد من الاهتمام بتغيير بعض المظاهر التى كانت راسخة عند الناس، مثل كسر حاجز الخوف على المستوى العام، ومثل زى المرأة، وجلوسها فى المنزل، فكثير من هذه المعتقدات زالت وتغيرت، فالمرأة نزلت وشاركت بكل جدية، كما أن التراكم المعرفى هو السبب فى كسر حاجز الخوف وأشبه ذلك بما حدث قبل اكتشاف أمريكا حيث كان يظن الناس أن المحيط الأطلنطى هو بحر الظلمات وعندما اكتشف كولومبوس أمريكا أصبح بحر الظلمات هذا هو المحيط الأطلنطى وفتح بحرا من العلوم، فالمعرفة هنا كسرت حاجز الخوف، وهو ما حدث للثورة المصرية حيث قامت على التبادل المعرفى عبر شبكة الإنترنت، وكان المحافظون وعلى رأسهم رجال الدين يخوفون من خطر العولمة ومن الفضائيات وشبكة الإنترنت لأنهم عاجزون عن التغيير فما كان يخوفون الناس منه أصبح هو أداة التغيير، وهكذا انكسر حاجز الخوف. وحول سبب عدم وجود أى حادثة تحرش جنسى واحدة داخل المظاهرات وتفسير ذلك نفسياً يقول د. ماجد موريس إن حالة الثورة جعلت هناك أهدافا فجرت طاقات الفكر نحو السعى إلى قيم ومبادئ أفضل للمرحلة القادمة وحركت الطاقات العاطفية إلى هدف مشترك أو التعبير عن الغضب ضد عدو مشترك، وعاطفة الحب تسامت للتعبير على المساعدة والتضامن بواجب غريزى وفطرى، وهى كلها تعبيرات عن الحب تتسامى عن التعبير بالتحرش بالأعضاء الجنسية، وهو ما يحيلنا إلى جزء آخر فى حياتنا وهو أنه لم يعد من المقبول أن يكون الفصل بين النوعين فى وسائل المواصلات والمدارس والتجمعات هو الذى يضمن عفة السيدات لأن ما يضمن العفة هو محتوى الفكر والتوجه العاطفى السليم والراقى والإحساس بالإنسانية مكتملة وليست مختزلة فى صورة أو حدود الغريزة الجنسية، فعندما يدرك الشباب أن تلك الشابة رفيقته أو زميلته أو غيره، بها ما هو أشمل وأعم من مجرد أنها موضوع للمتعة الجنسية سوف يتعامل مع العناصر الأخرى، وعار على المرأة أيضا أن تعتبر نفسها فى تعاملها مع الرجل لا تشكل بالنسبة له إلا للمتعة الجنسية، وبالتالى يكون كل هاجسها هو أن تأخذ حذرها فى التعامل مع الرجال وهذا يختصرها ويقلل من كرامتها، أما إذا شعرت أن لها فكرا وتطلعات ودور فى الحياة عليها أن تمارسها وتعبر عنها وتعيشها بوضوح مثلما فعلت أثناء المظاهرات. وعن السبب وراء انتشار المظاهرات الفئوية فى كل نواحى المجتمع ونموها بشكل غريب، فيؤكد د. ماجد موريس أن هذه الظاهرة ترجع إلى حالة من الطفولة الغاضبة غير المسئولة التى تطلب دون أن تعطى ودون أن تنظر إلى المناخ العام ودون إحساس بالمسئولية ودون أن نعطى للزمن وقته كى تعود الإصلاحات الكبرى بالفائدة عليهم، وبطبيعة الحال هذا سلوك غير ناضج، والحل الآنى هو إلزام الشعب بمنظومة من الضوابط والقوانين حتى لا نفرط فى مكتسبات وسلامة وأمن الدولة وأن تستنزف قدرات الجيش فى التعامل مع ظواهر فرعية مثل هذه، بينما على المدى البعيد سوف تتلاشى هذه الظاهرة كلما استطاع الشعب أن ينضج ويتحول من حالة الطفل إلى حالة الرشد فى مناخ ديمقراطى يشعر فيه أنه مشارك فى صنع القرار. وحول خفة الدم التى صاحبت المظاهرات يقول الدكتور عمرو أبو خليل مدير مركز الاستشارات النفسية والاجتماعية بالإسكندرية إن الشعب المصرى على مدار التاريخ شعب خفيف الدم أو خفيف الظل بطبيعته ولكن روح الدعابة فاختلاق النكت والشعارات المتناغمة جاءت مع خروج الشعب المصرى للشارع وشعورهم بالراحة وإثبات الذات وأن هذه البلد بلادهم وأن الناس وغير المصريين فخورة بهم أى أن روح السعادة والفرحة حتى قبل تنحى الرئيس جاءت بعد عودة الإحساس بالعزة والكرامة بعد موتها 30 عاما وعودة الروح واختفاء حالة الاكتئاب حيث أصبح لدى الناس أمل وروح الانتماء للأرض وهذا الإحساس هو الذى أطلق روح الابتسام. ويضيف الدكتور أبو خليل أن النكتة بشكل عام وسيلة دفاع متعارف عليها في علم النفس حيث يكثر استخدام النكت لدى الناس عند الشعور بالكبت والأزمات، وتعمل على حماية الإنسان فى مواجهة الأمور، لكن النكتة السياسية تزيد فى وقت الأزمات السياسية. فى حين يؤكد الدكتور حسن محمد حسن أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب جامعه الإسكندرية أن النكتة السياسية توصف بأنها رسالة شديدة المرارة، والتى يعتبرها المختصون بأنها تندرج تحت بند «جلد الذات». وعلى الرغم من أن منابع النكتة تظل مجهولة، فى العادة، وتتباين الفروقات حيالها بين شعب وآخر، غير أنه لا يختلف اثنان على أن الشعب المصرى هو ملك النكتة السياسية، وثمة نكات سياسية شهيرة عرفت فى مصر أيام الرئيس جمال عبد الناصر؛ منها، مثلا «أن رجلا من القاهرة سمع أن الأرز متوافر فى الإسكندرية، فسافر إليها فى القطار كى يشتريه، وفى القطار سأله الكمسارى، مسافر فين وليه؟ مسافر إسكندرية عشان أشترى الرز، ولما وصل القطار إلى طنطا (وتبعد عن الإسكندرية حوالى 100 كم)، قال له الكمسارى «انزل هنا»! فسأله «طيب ليه وإحنا لسه موصلناش اسكندرية؟» فأجابه «مش أنت رايح إسكندرية عشان تشترى رز؟ فرد:».. أيوه». «طب أنزل الطابور بيبدأ من هنا» وعلى الرغم من أن هذه النكتة فى الأصل ليست مصرية، وإنما بولندية وتحكى عن أزمة اللحوم، لكنها آلمت (عبد الناصر) للغاية، إلى درجة أنه استدعى وزير التموين.