نأمل أن تكون الأزمة التى شهدتها مصر على مدى 17 يوماً متواصلة قد انتهت بعد إعلان الرئيس مبارك تفويض سلطاته إلى نائب رئيس الجمهورية.. حفاظاً على استقرار الوطن وسلامة أبنائه، بعد أن تبين أن ثورة الشباب لن تهدأ ولن تتنازل عن مطلبها الرئيسى الذى رفعته منذ خروجها إلى الشارع واستقرارها فى ميدان التحرير. لقد كان مساء الخميس الماضى لحظة حاسمة فى تاريخ مصر الحديث، حيث كانت تصر جموع الشباب بميدان التحرير والشوارع المحيطة به على رحيل الرئيس ويهددون بالتصعيد وتسيير مظاهرات ضخمة نحو مؤسسات استراتيجية بالدولة،بينما أعلن الجيش أن المجلس العسكرى للقوات المسلحة فى حالة انعقاد مستمر لاتخاذ التدابير المناسبة للحفاظ على الوطن ومكتسبات وطموحات الشعب المصرى، وأصدر بالفعل بيانه الأول المتضمن لخبر الانعقاد والهدف منه، بينما نقلت شاشات التلفزيون المحلية والعالمية صورة اجتماع الرئيس مبارك مع نائبه السيد عمر سليمان وظهر الاثنان فى حوار يبدو هادئاً وإنما كانت الوجوه معبرة عن حالة الارتباك التى تسود البلاد وقتها. وهو ما تكرر أيضا عندما أعلن التليفزيون المصرى بعدها بدقائق قليلة عن اجتماع الرئيس مبارك برئيس الوزراء المكلف د.أحمد شفيق ولم يعلم أحد ماذا دار فىالاجتماعين، ولم تكن هناك أية توضيحات عما يجرى داخل أروقة الحكم وبين قياداته. وكثرت الشائعات والتوقعات.. وصدعنا الخبراء بتحليلاتهم النظرية المعلنة، ومرت الدقائق والساعات وكأنها أيام طويلة إلى أن حسم الرئيس مبارك الموقف ببيانه الذى أعلن فيه عن تفويض سلطاته إلى نائبه، مضيفاً فى كلمات مؤثرة وبلهجة أبوية أنه يتوجه بحديثه لابنائه وبناته.. شباب مصر بميدان التحرير.. معلنا اعتزازه بهم رمزا لجيل مصرى جديد.. معزيا أسر وعائلات الضحايا من الشباب البرىء الذين سقطوا فى الأحداث، موضحاً أنه لا يجد غضاضة أو حرجا فى الاستماع لشباب بلده والتجاوب معهم، ولكنه لن يقبل الاستماع لإملاءات أجنبية من الخارج أيا كان مصدرها وأيا كانت ذرائعها أو مبرراتها لقد غلب الرئيس مبارك المصلحة العليا للوطن ووضع مصر أولاً وفوق كل اعتبار آخر، خاصة فى هذه الأوضاع العصيبة التى شهدتها البلاد والتى وضعتها فى مفترق طرق لفترة من الوقت. *** والآن.. ماذا نحن فاعلون.. لقد راحت السكرة وجاءت الفكرة كما يقولون، فهناك لجنة من الخبراء تدرس التعديلات الدستورية المطلوبة وانتهت بالفعل فى اجتماعاتها الأولى من الاتفاق على تعديل 6 مواد مختلفة، منها ما يتعلق بتيسير شروط الترشيح لرئاسة الجمهورية، واعتماد مدد محددة للرئاسة تحقيقا لتداول السلطة، ومنها ما ينظم الإشراف القضائى على الانتخابات ضمانا لحريتها ونزاهتها، وأيضاً المواد الخاصة بقيام القضاء وحده فى الفصل فى صحة وعضوية أعضاء البرلمان وتعديل شروط وإجراءات طلب تعديل الدستور، وقد سارع الرئيس فور تلقيه التقرير الأولى للجنة بطلب تعديل تلك المواد السابقة من الدستور (189،93،88،77،76) بالإضافة إلى إلغاء المادة 179 والخاصة بمكافحة الإرهاب وفرض حالة الطوارئ بغرض تحقيق التوازن المطلوب بين حماية الوطن من مخاطر الإرهاب وضمان احترام الحقوق والحريات المدنية للمواطنين هذا إلى جانب استعداد الرئيس للموافقة على تعديل مواد أخرى قد ترى اللجنة المشكلة لهذا الغرض تعديلها وفق ما تراه من الدواعى والمبررات. وهنا تجدر الإشارة فى هذا المجال إلى أنه على الرغم من اختيار اللجنة من أعضاء مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والتخصص مع مراعاة أن تكون اللجنة ممثلة للجهات المعنية بذلك الأمر مثل محكمة النقض والمحكمة الدستورية والقضاء الإدارى، إلى جانب عدد من الخبراء المستقلين الممثلين للمدارس والتيارات الفقهية المختلفة، إلا أن البعض اعترض هذا التشكيل بحجة عدم تمثيلهم فيها مثل النيابة الإدارية التى هدد أعضاء ناديها بالاعتصام، وكذلك فعل حزب التجمع الذى أصدر بيانا بانسحابه من عملية الحوار مع نائب الرئيس لذات الحجة والذريعة.. هذا مع أنها لجنة فنية ومؤقتة وشكلت لغرض محدد لا خلاف على مضمونه، حيث كان المجتمع كله يتناول تلك التعديلات بالنقاش منذ سنوات سابقة.. ولكنها السياسة التى يحاول البعض فيها استعراض قوته أو الحصول على مكاسب إضافية بأى شكل فضلاً عن التواجد فى الشارع السياسى والكادر الإعلامى. أيضاً هناك لجنة تقصى الحقائق والتى وجه بها الرئيس مبارك، وأصدر رئيس الوزراء قراراً بتشكيل وتحديد إطار عملها، حيث كلفت بتقصى حقائق ما حدث من عمليات عنف واعتداء على المتظاهرين فى ميدان التحرير، وأسباب ماحدث وملابساته والقائمين به والدافعين له إن وجدوا، على أن تعرض اللجنة ما تتوصل إليه على النائب العام مباشرة لاتخاذ الإجراءات القانونية الواجبة ضد كل من يثبت مشاركته أو التحريض عليها. هذا بخلاف التحقيقات القضائية مع عدد من رموز الفساد فى الفترة الماضية، وقد أصدرت محكمة جنايات القاهرة صباح الخميس الماضى قرارها بمنعهم من السفر والتصرف فى أموالهم، وهى تدابير احترازية لحين الانتهاء من التحقيقات وصدور القرار المناسب من النيابة العامة وفقاً لما ستسفر عنه سواء بالإحالة إلى المحاكمة أو بالحفظ. لقد شهدت البلاد على مدى الأيام الثلاثة الأخيرة أحداثا غريبة ومتنوعة، فقد بدت البلاد وكأنها فى عصيان مدنى.. مظاهرات فى كل مكان أكثر من مليون شخص فى ميدان التحرير والشوارع المحيطة به، غياب ملحوظ لقوات الشرطة فى الشارع بعدما حدث منها ولها فى الأيام الأولى من الأحداث،مظاهرات مختلفة ومتعددة فى المحافظات اتسمت بالعنف وإحراق الممتلكات والمؤسسات العامة وإن كان بعضها لأسباب خاصة مثل الحصول على شقق سكنية كما حدث فى بورسعيد والجيزة والقاهرة، أو بدافع الانتقام من بعض رجال الأمن كما حدث فى الوادى الجديد. كما استغلت فئات عديدة من العاملين بالجهاز الإدارى فى الدولة هذا «الإرتباك»الذى كانت تعيش فيه البلاد وخرجت فى مظاهرات ووقفات احتجاجية مطالبة بزيادة الأجور أو علاوات خاصة بل وصل الأمر إلى أن ذهب كل من لديه مشكلة خاصة مع رئيسه أو جاره أو قريبه إلى ميدان التحرير رافعاً لافتة بمظلمته طالباً حلها وإلا سوف يستمر مع المعتصمين، هذا بينما كانت الغالبية العظمى من المصريين تمارس حياتها العادية من الذهاب إلى أعمالها أو الحصول على احتياجاتها إلى أن تعود إلى منزلها فى المساء لمتابعة الأحداث وتطوراتها على شاشات التليفزيون المختلفة، ذلك بعد أن يكون البعض منهم قد اخترق ميدان التحرير فى طريق عودته أو مكث فيه لبعض الوقت وحتى بداية ساعات حظر التجوال. ومع كل ذلك كانت هناك «مبادرات» قام بها البعض بدوافع وطنية متأصلة فى الوجدان المصرى حيث قامت مجموعة من النساء والفتيات بحملة منظمة لتنظيف الشوارع والأماكن التى تعرضت للحريق أو التدمير، كما قام البعض الآخر بإصلاح أقسام الشرطة بينما تبرعت جهات عديدة بجزء من مرتبات العاملين لديها للمساهمة فى تعويض من أضيروا فى الأحداث. *** لقد عاد الاستقرار إلى الشارع المصرى وهدأت الأعصاب المتوترة وسكنت الحناجر والأصوات المرتفعة.. بعد أن دفع المجتمع «فاتورة» باهظة من دماء شبابه الطاهر النقى سواء من المتظاهرين أو من رجال الشرطة.. هؤلاء الشباب المصرى الجميل الذى حمل لواء التغيير بعد أن نفد صبرهم من عجز أصحاب الشعر الأبيض واستكانتهم للأوضاع القائمة قبل 25 يناير الماضى. لقد ضحى الشباب الواعى بدمائه الذكية لكى تنتقل مصر إلى مرحلة جديدة تتسم فيها الحياة بالعزة والكرامة وسيادة القانون على الجميع فى ظل مؤسسات قوية فاعلة وشرطة فى خدمة الشعب وقوات مسلحة تحمى الدستور والأمن القومى للبلاد.. وعدالة اجتماعية وحقوق كاملة لكل مواطن مصرى طبقاً لمبدأ «المواطنة». التحية واجبة للشباب المصرى الذى ضحى بدمائه من أجل التغيير، والوفاء واجب للرئيس مبارك هذا الربان الذى رفض ترك سفينة البلاد تتقاذفها الأمواج.. وعبر بها نحو الشاطئ سليمة ومستقرة.. مفوضاً نائبه سلطاته الدستورية حفاظاً على استقرار الوطن وسلامة أبنائه لكى تظل مصر قوية عزيزة. حفظ الله مصر وحماها من كل سوء.