قبل عصر النت والرسائل الإلكترونية ، كان تبادل الرسائل هو وسيلة التواصل الرئيسية بين الأدباء والمثقفين مثلهم مثل غيرهم من البشر وذلك قبل أن يتم تصنيفها على أنها فن من فنون الأدب ، لما كانت عليه من أدب رفيع ولغة عالية غنية. ومن الملاحظ فى تلك الرسائل أنه فى نفس الوقت التى تناولت فيه قضايا أدبية واجتماعية، وقضايا مصيرية مرت بأصحابها، فقد تشبعت بشحنة وجدانية عالية على الرغم من بطء المراسلات وبعد المسافات، وهذا ما لم يفلح فى أن يحققه البريد الالكترونى بسرعته وسهولته فى الوصول، ليصبح مجرد وسيلة تواصل حديثة أسهمت فى ميكنة العواطف والانفعالات والأحاديث. فلم يعد هناك داع لنقاش مطول، أو تبادل حديث القلب فى رسالة طالما هناك الموبايل والايميل، وكاميرا الويب التى أتاحت للعين العمل بدلا من المخيلة التى كانت سببا رئيسيا فى تواصل المراسلات بين أطراف عديدة، لم يشكل تشتتها فى أركان الأرض حائلا أو عائقا أمام التواصل بالكتابة، وإن لم يقدر لها أن تلتقى أبدا بالفعل. ولا أبلغ من المراسلات المتبادلة بين «مى زيادة »، و«جبران خليل جبران» للتعبير عن نموذج رائع لمشاعر وتحولات وجدانية راقية كانت فيها الرسائل سببا ووسيلة، ومن ثم تجلت فى كلماتها الواصفة بدقة صدق الطرفين. فى رسالة لمى زيادة ، كتب جبران: « لقد أعادت رسائلك إلى نفسى ذكرى ألف ربيع وألف خريف وأوقفتنى ثانية أمام تلك الأشباح التى كنا نبتدعها ونسيرها مركبا إثر مركب ..! . « . وبدورها تكتب مى : «. ولتحمل إليك رقعتى هذه عواطفى فتخفف من كآبتك إن كنت كئيبا، وتواسيك إن كنت فى حاجة إلى المواساة، ولتقوك إذا كنت عاكفا على عمل ولتزد فى رغدك وانشراحك إذا كنت منشرحا سعيدا» . ومثلها الرسائل المتبادلة بين غسان كنفانى، وغادة السمان، وإن كانت أكثر صراحة، يضاف إلى ذلك أنهما التقيا بالفعل، لتنتقل الرسائل من المشاعر المكبوتة إلى مرحلة التجسيد ومن ثم مشاكل الفراق والشك والغيرة واليأس والآخرين وظروف الحياة التى حتمت على كنفانى معايشة تيه المنافى بعيدا عن الوطن وعن من أحب. كتب كنفاني: «أعرف أن الكثيرين كتبوا إليك، وأعرف أن الكلمات المكتوبة تخفى عادة حقيقة الأشياء خصوصا إذا كانت تُعاش.. لقد كان شهراً كالإعصار الذى لا يفهم، كالمطر، كالنار، كالأرض المحروثة التى أعبدها إلى حد الجنون، وكنت فخوراً بك إلى حد لمت نفسى ذات ليلة حين قلت بينى وبين ذاتى إنك درعى فى وجه الناس والأشياء وضعفى، وكنت أعرف فى أعماقى أننى لا أستحقك ليس لأننى لا أستطيع أن أعطيك حبات عينى ولكن لن أستطيع الاحتفاظ بك إلى الأبد.» ولم تقتصر الرسائل على الجوانب الشخصية والوجدانية والبوح، هناك رسائل أخرى حملت ثقافة عالية وقضايا كبرى مثل مراسلات «جواهر لال نهرو» لابنته «انديرا غاندى « والتى فى رسالة واحدة منها تناول نهرو التاريخ والسياسة والاقتصاد والتعليم، معطيا لابنته جرعة مكثفة عن الحرية والديمقراطية وتطور أفكار المجتمعات الغربية فى النظر إلى قضاياها الكبرى، فكانت رسائل نهرو سببا من عدة أسباب تداخلت لتكوين شخصية أنديرا القوية وصعودها لتصبح امرأة الهند الحديدية كأول امرأة تتولى رئاسة الوزراء. وقد جمعت بعض المراسلات بين الأدب والحياة اليومية بصورة ساخرة مثل تلك الرسائل المتبادلة بين الروائى المغربى «محمد شكري» وصديقه الدكتور «محمد برادة». فكما تحدثا عن الأدب المغربى وتولستوى ودوستويفسكى واغتيال عزالدين القلق، فقد تحدثا عن صوت أم كلثوم وعن أرنب تحول إلى وجبة شهية لمحمد شكرى : « . أم كلثوم تغنى على بلد المحبوب. اشتغلت حوالى أربع ساعات فى منزلي. اشتريت أرنباً طبخته بالبصل والزبيب.. منذ أيام وأنا أعيش على المعلبات. هذه عادة سيئة.» أما رسائل سميح القاسم ومحمود درويش، فقد جاءت بعد اتفاق بينهما على تبادلها، رغم تخوف درويش من الأمر: «كم تبهجنى قراءة الرسائل..! وكم أمقت كتابتها.. لأنى أخشى أن تشى ببوح حميم قد يخلق جوا فضائحياً لا ينقصني.. ولكن، ما قيمة أن يتبادل شاعران الرسائل..؟ لسنا بشاعرين هنا. ولن نكون شاعرين إلا عندما يقتضى الأمر ذلك. هل هذا ممكن..؟ لا أعرف إن كنت سترضى بهذا التغييب الملازم لاستحضار إنسانيتنا المقهورة بعدوان الحب والقصيدة، منذ حول العربيُّ الجديد شاعره الجديد إلى موضوع. فماذا نريد أن نقول..؟ لقد فعل الشعر فينا ما تفعل الموسيقى بموضوعها، تتجاوزه للافتتان بذاتها وأداتها. ولكن أين مكاننا..؟ وأين لحمنا ودمنا..؟ أين طفولتنا..؟ لقد تعبت من المهارة.....» وهناك الكثير من المراسلات تم الكشف عنها ونشرها ، لتتحول إلى نصوص ذات بهجة تستحق الاحتفاء والاهتمام والدراسة. هذا كان قبل الشات والوجوه البلاستيكية الجامدة المميكنة بعبارات سابقة التجهيز مثل خدمة الدليفري. وتبقى الرسائل الأدبية تقاوم عوامل الزمن والنسيان كما قال محمود درويش: « ولكنك ستكتب إلىّ لإعادة تركيب ما تفكك فى النفس والزمن.. ستكتب إلىّ . سأكتب إليك.. لأعود . فما زال فى وسع الكلمات أن تحمل صاحبها وأن تعيد حاملها المحمول عليها إلى داره . وما زال فى وسع الذاكرة أن تشير إلى تاريخ ....»