جاء البيان الذى أصدره مجمع البحوث الإسلامية فى ختام جلسته الطارئة يوم الاثنين الماضى برئاسة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر رداً على تقرير لجنة الحريات الدينية الأمريكية حول أوضاع الأقليات فى مصر.. جاء بالغ الأهمية والضرورة.. جامعا مانعا.. مفندا بالحقائق الدامغة الافتراءات والادعاءات الأمريكية بممارسة التمييز الدينى فى مصر. وإذا كان البيان الذى صدر تحت عنوان «بيان الأزهر الشريف إلى الأمة» لم ينل ما يستحقه من اهتمام إعلامى مجتمعى بسبب الانشغال بالانتخابات البرلمانية التى جرى إعلان نتائجها النهائية يوم صدوره، فإن مجلس الشعب الجديد مدعو لمناقشته فى أولى جلساته مع بدء انعقاده. أهمية البيان فى تصديه بالحجة والمنطق لكل ما يجرى الترويج له فى الخارج من ادعاءات باطلة سواء عن جهل بحقائق الإسلام أو عن سوء نية، وعلى النحو الذى يكشف ويفضح المحاولات الأمريكية الساعية - حسبما جاء فى البيان - إلىتفكيك النسيج الوطنى والاجتماعى والثقافى فى مصر فى سياق مخطط لنشر «الفوضى الخلاقة» وتحويل المجتمع المصرى إلى طوائف يسهل اختراقها.. ضمانا للتفوق الإسرائيلى. ولعل البيان لم يضف جديدا حين أكد أنه لا تمييز بين المسلمين والمسيحيين وأن كنائس مصر مفتوحة ليلا ونهارا وهى حقيقة معلومة للجميع، بقدر ما نبه إلى حقيقة أخرى تعلمها واشنطن جيدا وهى أن اختيار القيادات الدينية المسيحية متروك للكنائس، بينما يخضع اختيار القيادات الدينية الإسلامية لرأى العديد من مؤسسات الدولة. وحسنا فعل مجمع البحوث الإسلامية إذ فضح الجهل والافتراء الأمريكى - وغير الأمريكى أيضاً - بشأن ما وصفها تقرير «الحريات الدينية» بالقيود التى يفرضها «الخط الهمايونى» العثمانى على بناء الكنائس، مشيراً إلى أن هذا الخط لم يكن قانونا مطبقا فى مصر حتى عندما كانت ولاية عثمانية، موضحاً فى نفس الوقت أن مصر تمتعت بالاستقلال التشريعى منذ عهد محمد على وأن كل القوانين واللوائح التى نظمت بناء الكنائس لم يكن بها هذا «الخط الهمايونى». وحسنا فعل مجمع البحوث الإسلامية أيضاً إذ كشف عن أن ثمة تسعة شروط لبناء المساجد تفوق من حيث الضوابط القانونية نظيرتها فى بناء الكنائس، وإذ أوضح أن نسبة وعدد الكنائس والمساجد فى مصر متساوية مع نسبة وتعداد السكان وفقا للإحصاءات الدولية. وفى رده على الاتهام الأمريكى لوزارة الأوقاف المصرية بالإنفاق على المساجد فقط دون الكنائس، فقد استند بيان الأزهر إلى الحقيقة الموثقة وهى أن الأوقاف الإسلامية تخضع لسلطة الدولة، بينما تتمتع الكنائس باستقلال مالى وإدارى، وأن الأوقاف المسيحية تخضع لإدارة الكنيسة المصرية، ولقد بدا ضروريا الإشارة وحسبما جاء فى البيان إلى معلومة مهمة ربما كانت غائبة عن المصريين وإن كانت غير غائبة عن أمريكا، وهى أن الدولة شاركت فى تكلفة إقامة وبناء كاتدرائية الأقباط الأرثوذكس بالقاهرة والتى تعد أكبر كاتدرائية فى الشرق كله على الإطلاق. وكان بيان الأزهر شديد القوة.. مفعما بالحس الوطنى والقومى والحضارى بشأن ما ورد فى تقرير «الحريات الدينية الأمريكية» حول منع التبشير بالمسيحية فى مصر، حيث أكد أن لكل صاحب دين سماوى الحق فى حرية عرض دينه والدفاع عنه والدعوة إليه، إلا أن الممنوع هو التنصير الذى تمارسه دوائر غربية وأجنبية والذى تعارضه الكنائس المسيحية الشرقية، باعتبار أن هذا المنع للغزو الثقافى هو جزء من الحفاظ على الاستقلال الحضارى الشرقى وليس تعصبا إسلاميا ضد المسيحية التى يعترف بها الإسلام ويحترم رموزها ويحمى مقدساتها. *** أما أهم ما تضمنه بيان مجمع البحوث الإسلامية فهو الرد على أخطر ما ورد فى التقرير الأمريكى من انتقاد للمادة الثانية فى الدستور والتى تنص على أن الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، حيث أوضح البيان أن هذا النص الدستورى جزء أصيل من تاريخ مصر الإسلامية الذى مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرنا، وأن هذه المادة تعبير عن هوية الدولة والأمة مثلما تعبر العلمانية عن هوية بعض المجتمعات التى تعيش فيها أقليات إسلامية لا تعترض على تلك الهوية. ثم إن هذا النص الدستورى على الهوية الإسلامية لمصر سبق - وحسبما أشار البيان - أن أقرته اللجنة التى وضعت الدستور عام 1923 بإجماع أعضائها بمن فيها من القيادات الدينية المسيحية واليهودية، بل صادقت الأمة المصرية على اختلاف أديانها على هذا الاختيار فى كل التعديلات التى أجريت تباعا على ذلك الدستور. ولقد كانت هذه المادة الدستورية تحديدا هى الملاذ الذى لجأت إليه الكنيسة لدعم موقفها الرافض لتنفيذ حكم القضاء الإدارى بإلزامها بالاعتراف بالطلاق والسماح بالزواج الثانى للمواطنين المسيحيين، حيث استند قداسة البابا شنودة إلى مبادئ الشريعة الإسلامية المنصوص عليها فى الدستور كمصدر رئيسى للتشريع والتى تقر بخصوصية عقائد الأديان الأخرى.. مستشهدا بأنه «إذا أتاك أهل الذمة فاحكم بينهم بما يقضى به دينهم»، ومن ثم فلولا هذا النص الدستورى الذى تعترض عليه لجنة الحريات الدينية الأمريكية لما كان ممكنا ولا مسموحاً.. دستوريا وقانونيا باعتراض الكنيسة على ذلك الحكم القضائى وسيكون ملزما لها رغم مخالفته للعقيدة المسيحية. إن النص الدستورى على الإسلام دين الدولة وعلى الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع.. تأكيد ضرورى على الهوية الدينية الإسلامية لأغلبية الشعب المصرى وفى نفس الوقت ضمان لعدم انتهاك عقيدة المسيحيين مثلما تنتهك دول الغرب الأوروبى والأمريكى العقيدة المسيحية بإقرارها لتعدد الزواج والطلاق وزواج المثليين الشواذ. *** أما بقية الادعاءات التى وردت فى التقرير الأمريكى والتى بدت مماحكات تافهة فقد أبطل بيان الأزهر مفعولها بالحجة والمنطق، وأولها ما يتعلق بمنع زواج المسلمة بغير المسلم والمطالبة بالسماح بزواجها من أتباع الديانات غير السماوية، حيث أوضح البيان أن هذا المنع لا علاقة له بالتمييز الدينى، وأن مرجعه إلى أن غير المسلم لا يعترف بالإسلام كديانة سماوية وهو ما يشكل مخاوف حقيقية على عقيدة المسلمة إذا تزوجت بغير مسلم، بينما يعترف المسلم بديانة زوجته غير المسلمة.. اليهودية والمسيحية ويحترم عقيدتها الدينية، وفى نفس الوقت فقد جاء البيان كاشفا وفاضحا ما وصفه بالجهل الأمريكى باعتبار أن مصر ليس بها أديان غير سماوية. وفى رده على ما وصفه التقرير الأمريكى بظلم الإسلام للمرأة فى الميراث، اعتبر البيان هذا الافتراء دليلاً على جهل مركب بفلسفة الإسلام فى المواريث، وإن غابت الإشارة إلى أن المسيحيين فى مصر يأخذون بنظام الميراث الإسلامى باعتباره الأكثر عدلاً وحكمة. ولقد استند بيان الأزهر إلى منظومة القيم الأخلاقية وموروث التقاليد الأصيلة قبل التعاليم الدينية، وذلك فى رده على افتراء لجنة الحريات الدينية الأمريكية بفرض الحجاب فى مصر على طالبات المدارس، حيث أوضح أن مسألة الزى من الحريات الشخصية، مشيراً فى نفس الوقت إلى أن ديانات الإسلام والمسيحية واليهودية تدعو إلى التزام الحشمة فى زى المرأة، ومشيراً أيضاً إلى حقيقة تاريخية واجتماعية وهى أن الأسر المصرية على اختلاف ديانتها خاصة فى الريف الذى يمثل سكانه 85% من شعب مصر، وكذلك فى الأحياء الشعبية بالمدن وفى البادية.. تفضل ارتداء الزى المحتشم الذى يسميه البعض الحجاب. أما أكثر الافتراءات والممحاكات الأمريكية فى تقرير لجنة الحريات خبثا، فهى المطالبة بزيادة عدد الأعضاء المسيحيين فى المجلس القومى المصرى لحقوق الإنسان على 5 أعضاء من إجمالى 25 عضوا، وقد أبطل الأزهر فى بيانه هذه المحاولة الخبيثة بإشارته إلى أن نسبة المسيحيين فى هذا المجلس 20% بينما نسبة المسيحيين 5.4% من إجمالى سكان مصر وفقا لإحصاء مركز «بيو» الأمريكى. *** يبقى أن بيان مجمع البحوث الإسلامية ينقصه أمران.. الأول أنه موجه إلى الأمة المصرية، وكان يتعين أن يكون بيانا إلى المجتمع الدولى كله.. ممثلاً فى منظمته الدولية.. الأممالمتحدة. الأمر الآخر أنه كان يتعين أن يكون بيانا مشتركا صادرا عن الأزهر الشريف والكنيسة.. موقعا باسم فضيلة الإمام الأكبر وقداسة البابا.. وعلى غرار البيان المشترك فى شهر أكتوبر الماضى لمواجهة دعاوى التطرف الدينى.