إن الذى تنشره الصحف هذه الأيام عن حوادث العنف والضرب المتبادل بين التلاميذ والمدرسين داخل المدارس والتى امتدت إلى الاعتداءات الجنسية، إنما يعنى فى حقيقة الأمر انفلاتاً خطيراً وخللاً فادحاً وفاضحاً فى إدارة العملية التعليمية بقدر ما يؤكد غيبة التربية فى المدرسة وفى البيت أيضاً، وفى نفس الوقت فإن هذا العنف يعكس الانهيار الذى أصاب منظومة القيم والأخلاق والموروث الثقافى والاجتماعى وحسبما تبدّى مؤخراً فى المجتمع. ثم إن هذا العنف الذى تشهده مدارسنا انعكاس ومحاكاة لما يجرى فى الشارع وفى التجمعات منذ سنوات من سباب ومشادات ومشاجرات عنيفة بين الناس من مختلف الطبقات والثقافات، بل بين الأسوياء لأتفه الأسباب وحتى بدون سبب، وهو العنف الذى امتد إلى جرائم السرقة بالإكراه والقتل والاغتصاب، وهو الأمر الذى يعكس حالة احتقان مجتمعى شديدة لأسباب تتعلق بالتكدس السكانى وصعوبة الأوضاع الاقتصادية بوجه عام والبطالة بوجه خاص. والذى يثير القلق أن حوادث العنف والضرب المدرسى هذه لم تعد حالات أو حوادث فردية ونادرة الحدوث، ولكنها فى تزايد مستمر وتوشك أن تتحول إلى ظاهرة خطيرة، إذا لم يتم التصدى الفورى لها بكل حسم. ورغم أهمية دور المدرسة فى إيقاف هذا العنف قبل أن يتحول إلى ظاهرة باعتبارها المسئول الأول عما وصلت إليه سلوكيات التلاميذ من تدهور وانفلات إجرامى، إلا أن المسئولية أيضاً تقع بنفس الدرجة وربما أكبر على البيت والأسرة، ثم أجهزة الإعلام خاصة المرئى.. الرسمى والخاص معاً، إذ يتعين الانتباه إلى أن استمرار ذلك السلوك العنيف فى المدارس سوف يكون له تداعيات اجتماعية خطيرة فى المستقبل القريب. مسئولية المدرسة تبدأ بضبط العلاقة بين المدرس والطالب أولاً، وبما يعيد التقاليد المدرسية المحترمة، وأولها احترام التلميذ والطالب لأستاذه، وأهمها حرص المدرس على الحفاظ على هيبته وهيئته بين تلاميذه داخل الفصل، إذ أن هذه العلاقة تعرضت لاهتزاز واهتراء شديدين بعد أن صار المدرس بسبب الدروس الخصوصية وكأنه أجير عند التلميذ! كما أن مسئولية المدرسة تتطلب استعادة دورها التربوى والأخلاقى والثقافى، حتى قبل استعادة دورها التعليمى، وهو الأمر الذى يستلزم أولاً انضباط سلوكيات القائمين على العملية التعليمية، وحتى يرى التلميذ فى إدارة مدرسته وفى مدرسيه القدوة الحسنة والمثل الأعلى والنموذج الذى يحتذى به. هذا الدور التربوى الغائب لن يعود ويتحقق إلا بزيادة حصص التربية الدينية والأخلاقية، وفى نفس الوقت فقد بات ضرورياً - ومهما كانت الشكوى من ضعف الإمكانيات - إعادة الأنشطة المدرسية.. الرياضية والفنية والتى غابت وتلاشت تماما من مدارسنا.. الحكومية والخاصة على حد سواء، إذ لا يخفى أهميتها وضرورتها فى تفريغ الطاقات الزائدة لدى التلاميذ والطلاب فى سن المراهقة وتوجيهها نحو مجالات إبداعية ووجدانية من شأنها تهذيب وتقويم سلوكياتهم وإعلاء القيم الأخلاقية لديهم. وبالتوازى مع دور المدرسة التربوى، فإن دور الأسرة فى البيت لا يقل أهمية، بل إنه الأساس فى البناء الأخلاقى والقيمى للأبناء، وهذا هو بيت القصيد، إذ أن البيت فقد دوره، وغاب الأب وربما الأم أيضاً ولم يعد لديها الوقت الكافى للتربية النفسية والأخلاقية للأبناء.. اكتفاءً بالتربية الجسدية وتوفير الاحتياجات المادية. الأمر الآخر هو أن غيبة الدور التربوى للمدرسة والبيت لا ينفصل ولم ينفصل بالفعل عن غيبة الدور التعليمى، حيت تعانى العملية التعليمية من خلل لا تقل فداحته عن الخلل التربوى. وليس خافياً على أحد - بداية من أصغر تلميذ إلى وزير التربية والتعليم - أن التدريس داخل الفصول فى تراجع مستمر وإلى درجة الغياب، وهو الأمر الذى يؤكده استشراء واستفحال ظاهرة الدروس الخصوصية، حيث انتقل التعليم بالفعل من المدرسة إلى البيت! وحتى أصبحت وزارة التربية والتعليم اسما على غير مسمى! ولأنه من غير الممكن إغفال العامل الاقتصادى وتدنى أجور المدرسين مقارنة بالجهد التدريسى المنوط بهم وهو ما ألجأهم إلى الدروس الخصوصية، ولأنه من غير الممكن أيضاً إغفال ما وصلت إليه حالة الأبنية التعليمية والمدارس المتهالكة من تردٍ، بالإضافة إلى الكثافة المرتفعة للفصول الدراسية، وهى حالة مؤسفة تجعل غالبية المدارس بيئة غير صالحة للتعليم وللتربية أيضاً، فإن النتيجة الحتمية أنه لا تعليم ولا تربية! لقد كان الدكتور طه حسين وزيراً للمعارف فى منتصف القرن الماضى وهو أول من نادى بأن يكون التعليم كالماء والهواء.. قاصداً أن يكون مجانياً ومتاحاً للجميع، وهو المبدأ الذى انتهجته وتوسعت فى تطبيقه حكومات ما بعد ثورة يوليو وحتى الآن، غير أنه لم يكن يتصور أنه سيأتى اليوم الذى يصبح فيه الهواء ملوثاً ويصير للماء سعر مبالغ فيه بل ملوث أيضاً، وهو ما أصاب التعليم أيضاً ولم يعد تعليماً ولا مجانياً! لذا ولكل ما سبق من أسباب فإنه بات ضرورياً إعادة النظر فى مسألة مجانية التعليم الخادعة والتى تصل تكلفتها السنوية نحو خمسين مليار جنيه.. يجرى إهدارها هباءً للإبقاء على هذه المجانية المزعومة، فى الوقت الذى تصل فيه تكلفة الدروس الخصوصية إلى ما يقترب من هذه المليارات، ورغم تلك المليارات فإنه لا تعليم حقيقياً وهو ما يؤكده مستوى الخريجين المتدنى علمياً وفكرياً وثقافياً. ولعله ليس سراً أنه لم يعد لدينا تعليم حقيقى حالياً ومنذ سنوات إلا فى المدارس الأجنبية التى تصل مصروفاتها إلى أرقام فلكية، ويدرس بها أبناء الصفوة شديدة الثراء، وهؤلاء هم الذين تتيح لهم الدراسة فى هذه المدارس والالتحاق بالوظائف المرموقة ذات الدخول المرتفعة فى سوق العمل. ومع أنه لا مانع من تباين مستويات التعليم، إلا أنه يبقى ضرورياً توافر الحد الأدنى من التعليم المحترم والمتطور فى المدارس الحكومية والخاصة المصرية لأبناء مختلف الطبقات والفئات. ومن المؤكد أن المقارنة بين مناهج الدراسة فى المدارس الأجنبية وبين الحكومية والخاصة المصرية تستدعى ضرورة الإسراع بتطوير حقيقى ومدروس وبمشاركة الخبراء وأساتذة التربية لتلك المناهج والتى مازالت تعتمد على الحفظ والتلقين، وتفتقد إلى تدريب الدارسين على التفكير والإبداع وبما يتماشى مع التطورات العلمية المتلاحقة. ومن المؤكد أيضاً أن منظومة التعليم الحالية يتعين تطويرها تطويراً جذرياً فى إطار سياسة تعليمية محددة المعالم.. ثابتة ومستقرة.. لا تتغير بتغيير الوزراء، مع ملاحظة أن كل ما ينطبق على التعليم المدرسى ينطبق أيضاً على التعليم الجامعى والبحث العلمى. إن التعليم قضية أمن قومى وهو قاطرة النهضة العلمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذلك التربية.. تربية وتنشئة أجيال متعلمة وهى أيضاً سياج الأمن والاستقرار والسلام الاجتماعى.. فى الحاضر والمستقبل.