يعتبر العقاد ظاهرة أدبية وفكرية خارقة في دنيا الفكر والأدب، فهو كالجاحظ أديب موسوعي لم يقصر نشاطه على حقل من حقول المعرفة وإنما سعى إلى الثقافة ككل ونظر إليها على أنها كل لا يتجزأ. والذي يبهر في هذا الكاتب عصاميته فهو إن اكتفى في تعلمه النظامي بنيل الشهادة الابتدائية، فقد كدح في سبيل المعرفة كدحًا وأخلص في طلبها مضحيًّا بالزوجة والولد ومتاع الدنيا مكتفيا بما يسد الرمق ويحفظ ماء الوجه. وأما الصفة الثانية الباهرة فيه فهي حبه للحرية وإيمانه بأنها أساس صلاح الفرد، وتعلقه بالحرية دفعه إلى الذود عن كرامته والاعتزاز بنفسه حتى لكأنه أحد آلهة الإغريق. ولقد كان لويس عوض على حق حين قال: "صورة العقاد عندي لا تختلف عن صورة هرقل الجبار الذي يسحق بهراوته الأفاعي والتنانين والمردة وكل قوى الشر في العالم". مارس العقاد النقد والتراجم والمقال وأخرج كتبًا آية في تحري الدقة العلمية والحقيقة مستعينًا بقلمه السيال وبثقافته الجبارة في شتى شؤون المعرفة. فلقد عرف العقاد "بالعبقريات" وبقصة "سارة" و"بالديوان في الأدب والنقد" وبسيرته الذاتية "أنا"، وبهذه المؤلفات شاع بين الباحثين والأساتذة والطلبة. غير أن الثابت أن الذي كان يحز في نفس الأستاذ العقاد أنه لم يشع كشاعر وأن شهرة حافظ وشوقي كانت تؤلمه أعمق الألم، ولاغرو في ذلك فالعقاد يرى أن الشعر مقتبس من نفس الرحمن وأن الشاعر الفذ بين الناس رحمن أوليس هو القائل: والشعر من نفس الرحمن مقتبس ** والشاعر الفذ بين الناس رحمن بلى فالشاعر تفضي إليه ألسنة الدنيا بأسرارها فهو روح الوجود وضميره، والشاعر أعلى درجة من غيره ومن وصل إلى هذه المرتبة فقد حقق أعظم مآرب في الحياة. ولقد أخرج العقاد عدة دواوين شعرية وأعطاها عناوين تتماشى وسني عمره: "يقظة الصباح"، "وهج الظهيرة"، "أعاصير مغرب"، "أشجان الليل" وديوان آخر رصد فيه وقائع الحياة اليومية على عادة شعراء الغرب جعل عنوانه "عابر سبيل". ويجدر بنا قبل التطرق إلى شعر العقاد أن نعرف موقفه من الشعر، فلقد عرف الكاتب الشاعر بخصومته العنيفة لأنصار شعر التفعيلة ولما كان عضوًا بالمجلس الأعلى للآداب والفنون ومقررا للجنة الشعر، كان يحيل قصائد التفعيلة على لجنة النثر للاختصاص، فلقد حارب هذا النوع من الشعر وكان يسميه الشعر السائب. فهو من المحافظين على عمود الشعر دون الخروج على الأوزان الخليلية فالوزن والقافية هما حدا الشعر وما يميزه عن النثر، والشاعر الفذ هو الذي يعبر عن أفكاره وأحاسيسه محافظًا على الوزن والقافية دون أن يحد الوزن من قدرته التعبيرية. إن الشعر عند العقاد فن محكوم بالقيود وهو مناورة بها يتميز الشاعر عن الشويعر والشعرور. ولم يقف العقاد عائقًا أمام سنة التطور، فالتجديد في الشعر ضرورة من ضرورات العصر وقد مارسه أجدادنا فأبدعوا الموشحات والأزجال والمجزوء ومخلع البسيط ونوعوا القوافي حتى تتأتى المرونة في التعبير وتتحقق المتعة الفنية ويتحاشى السأم من الرتابة المملة في الوحدة، وهكذا مارس العقاد التجديد في الشعر بتنويع القافية واستعمال المجزوء والاستعانة بالبحور الخفيفة كالرمل والخفيف والمتقارب والمديد، وأضاف الى ذلك قصر الشعر على الوجدان وقد كان شعار مدرسة الديوان بيت لعبدالرحمن شكري: ألا يا طائر الفردو ** س إن الشعر وجدان وتحاشى المديح الزائف والرياء الكاذب والمبالغة الحمقاء، وفي ديوان "عابر سبيل" قصر الشعر على هموم الحياة اليومية كقصيدة الكواء، وليلة العيد، وفي هذا الديوان بالذات قصيدة في طفل صغير شرب على وجه الخطأ الجعة فاستمرأها واستحلاها فيقول العقاد على لسان الطفل - وهو إمعان في الواقعية الشعرية والصدق الفني -: (البيلا، البيلا) عوض البيرة البيرة لأن كثيرًا من الصغار ينطقون الراء لامًا. وهكذا فقارئ شعر العقاد يقف أمام عمارة نحتت أحجارها بأزميل وأحجارها من جرانيت أسوان لا يبهرك الجمال في تلك العمارة بقدر ما يبهرك الجلال. فالعقاد كما يرى تلميذه زكي نجيب محمود شاعر الجلال، ولنا في تفسير نزوع الشاعر هذا المنزع رأي مستمد من التركيبة النفسية للعقاد المنبهرة بالبطولة الممجدة للأبطال ولعل قامته الهرقلية وعصاميته الأسطورية زادتا في تقديره لنفسه ومواهبه ومن ثمة إعجابه بشخصه وهو موقف يؤدي بصاحبه إلى العزلة في جبل الأولمب مع آلهة الإغريق ويصبح الجليل والعظيم هو ما ينزع إليه ذلك الشخص، ولسنا ننفي صفة الجمال الفني عن شعره ففي بعض قصائده لمحات فنية جميلة، اقرأ شعره في وصف الشاعر واكتناه أغوار نفسه واستمتع بكلماتها الفنية الجميلة: يجني المودة مما لا حياة له إذا جفاه من الأحياء خوان ويحسب النجم ألحاظا تساهره والودق يبكيه دمع منه هتان إذا تجهم وجه الناس ضاحكه ثغر الورود ومال السرو والبان تفضي له ألسن الدنيا بما علمت كأنما هو في الدنيا سليمان والشعر ألسنة تفضي الحياة بها إلى الحياة بما يطويه كتمان لولا القريض لكانت وهي فاتنة خرساء ليس لها بالقول تبيان ما دام في الكون ركن في الحياة يرى ففي صحائفه للشعر ديوان وفي قصيدة "العقاب الهرم"، وهي قصيدة موحية بمعاني العظمة المقهورة بالزمن، إنها قصة عقاب هرم فعجز عن الصيد وصارت فرائسه تمرح أمامه نظرا لعجزة، وينسحب هذا المعنى على الأشخاص العظماء والدول الكبرى إنه الجلال عندما يشيخ، يقول الشاعر عن العقاب: يهم ويعييه النهوض فيجثم ويعزم إلا ريشه ليس يعزم لقد رنق الصرصور وهو على الثرى مكب وصاح القطا وهو أبكم يلملم حدباء القدامى كأنها أضالع في أرماسها تتهشم ويثقله حمل الجناحين بعدما أقلاه وهو الكاسر المتقحم إذا أدفأته الشمس أغفى وربما توهمها صيدًا له وهو هيثم لعينيك يا شيخ الطيور مهابة يفر بغاث الطير عنها ويهزم وما عجزت عنك الغداة وإنما لكل شباب هيبة لا تهرم وفي قصيدته عن "أسوان" وقصرها الفرعوني العتيق الذي زاره الشاعر هنا نقف أمام الجلالين جلال المعمار الهندسي وجلال التعبير الفني عند الشاعر يقول العقاد: رعى الله من أسوان دارًا سحيقة وخلد في أرجائها ذلك القصرا أقام مقام الطود فيها وحوله جبال على الشطين شامخة كبرا وليلة زرنا القصر يعلو وقاره وقار الدجى الساجي وقد أطلع البدرا قضى نحبه فيه الزمان الذي مضى فكان له رسما وكان له قبرا فياوجه "أوزيريس" هلا أضأتها وأنت تضئ السهل والجبل الوعرا فما رفعت إلا إليك تجلة ولا رفعت إلا إلى عرشك الشكرا ولست ضنينا بالضياء وإنما لكل إله ظلمة تحجب الفكرا وأحص مفردات العظمة والجلال في هذا المقطع من مثل: الطود، شامخة، كبرا، وقاره، قضى نحبه فيه الزمان، تجلة، رفعت، إله .. الخ. أما ناقدنا الكبير الدكتور شوقي ضيف فيري أن العقاد أقحم الفكر والمنطق في الشعر فجاءت قصائده دلائل منطقية ومسائل عقلية لغلبة الفكر والحجاج على الكاتب الشاعر العقاد وأنت واجد مثل هذا في شعره. اقرأ هذا المقطع لتقع على صحة هذا الرأي: وهذا إلى قيد المحبة شاخص وفي الحب قيد الجامح المتوثب ينادي أنلني القيد يا من تصوغه ففي القيد من سجن الطلاقة مهربي أدره على لبي وروحي ومهجتي وطوق به كفي وجيدي ومنكبي ورب عقيم حطم العقم قيده يحن إلى القيد الثقيل على الأب فهذه فلسفة عميقة تؤكد أن لا حياة بلا ضرورة وأن القيود مهماز القريحة والإرادة الإنسانية. أما هذا المقطع فهو زبدة التأمل والتفكير لا يتأتى إلا لأولي الفكر والحجاج: والعقل من نسل الحياة وإنما قد شاب وهي صغيرة تتزين والطفل تصحبه الحياة وما له لب يصاحب نفسه ويلقن إن العواطف كالزمام يقودنا منها دليل لا تراه الأعين على أن في بعض قصائد العقاد غنائية شجية استلها من مكنون ضميره وسلخها من تباريح وجدانه وآهات نفسه، وقل في الشعر العربي من بلغ هذه الغنائية الحزينة حتى المتنبي الذي يقول: يا ساقيي أخمر في كؤوسكما أم في كؤوسكما هم وتسهيد؟ إن طلبت كميت اللون صافية وجدتها وحبيب النفس مفقود يقول العقاد: ظمآن ظمآن لا صوب الغمام ولا عذب المدام ولا الأنداء ترويني حيران، حيران لا نجم السماء ولا معالم الأرض في الغماء تهديني يقظان، يقظان لا طيب الرقاد يدا نيني ولا سحر السمار يلهيني غصان، غصان لا الأوجاع تبليني ولا الكوارث والأشجان تبكيني سأمان، سأمان لا صفو الحياة ولا عجائب القدر المكنون تعنيني أصاحب الدهر لا قلب فيسعدني على الزمان ولا خل فيأسوني يديك فامح ضنى يا موت في كبدي فلست تمحوه إلا حين تمحوني وبعد: فهل العقاد شاعر؟ وجوابنا: نعم إنه شاعر ولئن طغت شهرته كناقد وقصصي وكاتب مقالات وباحث في سير العظماء فلن نبخسه حقه في إلحاقه بمملكة الشعر، ونزعم أن له في وادي عبقر الهاتف الذي يزين له زخرف القول، وفي تقديرنا أن الشعر الحديث الذي جدد بهاءه وأحيى مواته البارودي وحافظ وشوقي، ونفخت فيه روح الحياة جماعة "أبولو" برومانسيتها الحزينة والرابطة القلمية بانطلاقتها الوثابة، إن هذا الشعر بحاجة إلى دواوين العقاد وإن موقفه من الشعر صحيح سليم ولو أنه يفهمه كما فهمه كبار شعراء الإنجليز، وديوان "عابر سبيل" يعتبر فتحا في الشعر العربي بعد أن عفر جبينه أحقابا أمام قصور الخلفاء، فالشعر صورة من الحياة ونسل مبارك من رحمها وفي الحياة أطياف ومشاعر وطرائق قد يتسع لها الشعر جميعا بما فيها الفكر وثمار العقل وهذه هي أهمية العقاد كشاعر. ولعل نقيصته الوحيدة تحامله الشديد على شوقي، لسبب نفسي أكثر منه فني ثم حملته الشعواء على شعر التفعيلة الذي توطدت دعائمه وبذخت صروحه وكان فتحا جديدا في حياتنا الأدبية.