السينما – في أحد أوجهها – صناعة، وجزء من هذه الصناعة هو التسويق. كأي منتَج، لا يمكن للفيلم أن ينال فرصةً للتقييم، كفيلم جيّد أو لا، بدون وصوله إلى مشاهدين من خلال مهرجانات وشاشات. هذا هو حال الفيلم المكسيكي «روما» الذي توزّعه شبكة نتفليكس، وبالتالي يتلقاه أحدنا من خلال شاشة (تلفزيون، كمبيوتر، تليفون). أعطي هذه المقدّمة لأقول إنّ هذا الفيلم نال مساحات إعلانية في مدينة كبيرة كباريس، لا أذكر أنّ غيره نالها، في المساحات الإعلانية المربّعة الكبيرة على أرصفة مترو باريس، حيث لا نرى عادة إعلانات الأفلام المحصورة – الإعلانات- في ممرات المترو ودهاليزه، بحجم ملصق الفيلم المعتاد، كما يتواجد في صالات المدينة، بربع حجم إعلان «روما». أرادت الشبكة الأمريكية الإعلان عن هذا الفيلم تحديداً، بشكل استثنائي، مُبالغ فيه، ما لم نشهده لدى أفلام أخرى والإعلانات عنها، لأسباب أهمها في رأيي – وهو موضوعي هنا- رغبة الشبكة في إيصال هذا الفيلم تحديداً، إلى أكبر عدد من المشاهدين. لمَ هذا الفيلم؟ لأنّه نال واحدة من أهم الجوائز السينمائية في العالم، «الأسد الذهبي»، جائزة أفضل فيلم في مهرجان فينيسيا السينمائي، ولأنّه، بعد ذلك، نال جوائز عدّة. هذه أولاً، أما ثانياً فلأنّ للفيلم ذاته طبيعة الأفلام الفنّية غير التجارية والجماهيرية، الأفلام النخبوية لنقُل، بل هو أحدها، هي أفلام لها جمهور أساسي هو السينيفيليون، المشاهدون المداومون الخبيرون النقديون القارئون في السينما، وبدرجة أخرى عموم محبّي هذا النوع من السينما. لكن لمَ كلّ ذلك؟ نعرف أن هنالك إشكالا بين السينما (مهرجانات ونقابات وصالات) والشبكة الأمريكية نتفليكس، إشكالا كان له حضور في فرنساوالولاياتالمتحدة وبريطانيا وغيرها من المدن، حيث للصناعة السينمائية حضور بارز. ونعرف أن لمحبي السينما رأيا في نتفليكس ومثيلاتها قد لا يعجبها، خاصة مع الخطر (الاقتصادي أساساً) الذي يمكن أن تجلبه شبكات المشاهدة المنزلية (الستريمينغ) على عادة الذهاب إلى صالات السينما للمشاهدة. ونعرف أن لمحبي السينما حساسية تجاه أي مسبب للتقليل من عادة المشاهدة في صالة كبيرة مظلمة، تماماً كما كان – ومايزال – لمحبّي القراءة قلق تجاه الإغلاقات المتكررة للمكتبات، بسبب اجتياح الكتب الإلكترونية وألواح القراءة الخاصة بها، وإن خفّ هذا القلق بعد انحسار الألواح والعادات الإلكترونية الطارئة. لا أقول إن تلك الشبكات يمكن أن تتسبب بإغلاقات لصالات سينما، لكنّه قلق حاضر اليوم. كيف يمكن لنتفليكس أن تجابه كلّ ذلك؟ بالترويج بشكل مبالغ فيه لفيلم هو فعلاً جيّد (لم أقل إنه ممتاز)، ولكونه فيلماً غير أمريكي، غير هوليوودي تحديداً، شكلاً ومضموناً وصناعة، لفيلم هو فعلاً فنّي، له بعض عناصر الفيلم المستحق لجائزة أولى ما، لبضع تقييمات نقدية عالية، وإن كان كل ذلك مبالغاً فيه، أخيراً، بتأثير ما قدّمته الشبكة للفيلم من خدمات إعلانية/تسويقية. فكان الفيلم بوابةً لنتفليكس إلى محبّي السينما، استرضاء لهم، كان برهاناً بأنّ الشبكة، وإن خفّفت لدى البعض من عادة الذهاب إلى السينما، بأنّها توزّع وتعرض فيلماً فنّياً سيحبّه، افتراضاً، محبّو هذا النوع من الأفلام. هل يذمّ كل ذلك الفيلم؟ لا. هو – لنقُل- فيلم جيّد إلى حد ما، لكنّه مدلّل جداً، لدى راعيه، ما جعل تلك الجودة بدون معنى أو قلّل من جدّيتها. فلم يستحق الفيلم هذا الاحتفاء الكبير به. لأطرح المسألة من ناحية أخرى: هل كان للفيلم أن ينال ما ناله لو أنّه، إثر نيله «الأسد الذهبي» أو قبله، لو أنّه عُرض كغيره في صالات العالم، ونال حصّة تسويقية كغيره من أفلام عُرفت بالمستقلة أو الفنّية؟ لا أعتقد. الفيلم الذي أخرجه وكتبه وصوّره وشارك في مونتاجه وإنتاجه (وكل ذلك يُحسب له) المكسيكي ألفونسو كوارون، مخرج أفلام تراوحت بين البعد عن طبيعة «روما»، هي أفلام هوليودية نمطية، ك Gravity، 2013، و Harry Potter and the Prisoner of Azkaban، 2004، وأفلام أقرب ل «روما» في بداياته كAnd Your Mother Too، 2001، وقبله Great Expectations، 1998. لا بأس إذن في أن يصنع المخرج ذاته هذه الأفلام بتفاوتها، بما فيها «روما». لا تخصّ إذن إشارات الاستفهام لديّ الفيلمَ الذي لا أجده «رائعاً» بل هو جيّد ومبالغ في تقييمه وحسب، بل تخص تأثير نتفليكس على التلقي العام، خاصة لدى محبي السينما الفنية، في ما يخص أحد أفلامها. الفيلم جاء باسم أحد أحياء العاصمة المكسيكية، صُوّر بالأبيض والأسود، ويحكي، بهدوء، عن خادمة يتركها حبيبها في وقت يترك زوج المرأة التي تعمل خادمة عندها، زوجَته. وللفيلم إشارات نسويّة لا يمكن إغفالها. كل ذلك، كان سبباً في نيل الفيلم جوائز أوسكار وغيرها، في سياق لا يمكن فصله عن حملات «ME TOO» النسويّة في الولاياتالمتحدة وفي الصناعة السينمائية تحديداً وحالات التحرّش هناك، وهذه قصّة أخرى. نال «روما» (ROMA) جوائز أوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية وأفضل مخرج وأفضل سينماتوغرافيا، إضافة إلى «الأسد الذهبي»، وجوائز عديدة أخرى في مهرجانات العالم. ........ ٭ كاتب فلسطيني سوريا