إلى أي مدى من الممكن للصدفة أن تلعب دوراً مهماً في حياتنا فتغير مسارها وتحوله نحو طريق آخر_ خاصة عندما تحدث كومضة قدر عابرة، ثم تتركنا حائرين أي الدروب نسلك•؟ هكذا فعلت الصدفة مع الكاتبة الأمريكية ميشيل بافر التي عملت في سلك القضاء مدة ثلاثة عشر عاماً، ثم فجأة عقب لقاء عابر في القطار مع رجل مجهول تقرر التخلي عن كل ما في حياتها السابقة والتوجه نحو الكتابة. وقد أصدرت بافر حتى الان عدة روايات أبرزها: The shadow catcher- Without charity- A place in the hills- وآخر أعمالها الروائية التي صدرت ضمن لائحة أكثر الكتب مبيعا حسب صحيفة الغارديان كانت رواية (Wolf brother) التي اعتبرتها المولفة رواية مستوحاة من عالم الأساطير وتعني النشئة أكثر من الكبار،أذ تصف الرواية حكاية ولد يعيش في الغابة مع والده الذي يموت ويتركه وحيدا،ويضطر لمواجهة مصاعب الحياة الوحشية بمفرده• لكن ميشيل بافر لم تكن لتكتب كل تلك الآعمال لولا قيامها برحلة الى إيطاليا،والى منطقة "رافينا " تحديدا حيث كان اللقاء المصادف مع رجل غريب أعطاها علامة قدرية هامسة تقول"أن عليها البدء من جديد"• هذه التجربة تحكي عنها بافر بكثير من التفاؤل والأمل في القدرة على الإنصات لذاك النداء الغامض من أقصى أعماقنا والسعي نحوه بحب خال من التردد• تقول "كان الرجل الذي يجلس مقابلاً لي في القطار يرتدي معطف سفاري، وينتعل حذاء ملائماً للسير في الصحاري والمسافات الطويلة، يبدو علية أنه إيطالياً وفي الستين من عمره لم يكن يتكلم الإنجليزية، وأنا لا أعرف الإيطالية، لذا تبادلنا بعض العبارات بفرنسية ركيكة، أخبرني بحماس أنه عمل مصوراً فوتوغرافياً طوال حياته، مهنة لم ترض عنها عائلته• لكن يبدو أن قراره في اختيارها كان صائباً لأنه كان يبتسم أكثر مما يعبس• سألني: "وأنتِ ماذا تفعلين في الحياة"؟ أنا محامية تمتمت هذه العبارة وأنا أذكر عطل نهاية الأسبوع المفقودة ، والكوابيس الليلية، والتوتر المستمر الذي حولني إلى كائن مجمد المشاعر. لابد أنك تعملين كثيراً؟ سألني وهو يتأمل ملامحي، حاولت أن أبدو طبيعية وأنا أقول "ليس أكثر من المعتاد، كل الناس يعملون"• بهدوء تام وبنبرة ملائكية تخلو من صيغة النصيحة المباشرة قال لي العبارة التي غيرت مسار حياتي فيما بعد "من العبث أن نمضي وقتاً طويلاً في أمر لا نحبه، الحياة أقصر من أن نبددها، مازلت شابة صغيرة"•. شابة••.. رددت في داخلي تلك الكلمة، كنت في السادسة والثلاثين لكنني أحس كما لو أنني في الخمسين، وكما لو أنه يقرأ ما في سري قال: "لا تجعلي من نفسك تعيسة من أجل أمر باستطاعتك تغييره" تجمدت حنجرتي، امتلأت عيناي بالدموع، "تعيسة" كيف خمن ذلك رغم أنني لم أذكر شيئاً عن التعاسة،لكن لم تمنيت أن أسند رأسي إلى الوراء وأبكي؟• في تلك اللحظة توقف القطار في المحطة، صافحني الرجل الغريب مودعا، ثم حمل أمتعته وخرج بسرعة، وبينما كنت أقف لأنادي على سيارة أجرة، صاح الرجل العجوز بحب وهو يشير للمقهى المجاور بأنه علي السؤال عنه هنا في حال قدومي إلى "رافينا" مرة أخرى، ركبت في السيارة لوحت له بيدي وكانت المرة الأولى والأخيرة التي ألتقيه فيها• حتماً لم تتغير حياتي بسرعة بعد ذاك اللقاء، لأن الحياة لا تشبه الأفلام السينمائية ونحن كبشر واقعيين نحتاج لمزيد من الوقت لندرك ما علينا فعله• مرت سنتان وأنا مستمرة في عملي، والضغط يستمر أكثر، أعمل 16 ساعة يومياً، أتناول وجبات سريعة وغير صحية وأعالج الصداع اليومي بالمسكنات، كنت أستهلك علبة "سولبادين" أسبوعياً. أعيش من دون حياة اجتماعية وعطل نهاية الأسبوع واستعضت عن الحب والصداقة بمشاهدة أفلام فيديو لهاريسون فورد وغاري كوبير• نجاحي العملي ظل مستمراً، لكنني لم أكن سعيدة كنت أكسر ذلك الروتين بالهرب أحياناً إلى جزيرة يونانية بعيدة، أنام مدة 17 ساعة ثم أمضي بقية الأسبوع مع إحساس بالفراغ، كنت أردد لنفسي "أليس هذا ما أردته مهنة متألقة، بمردود مالي جيد، أنتِ بخير، ستتحسن الأمور وستخف أعباء العمل مع مرور الوقت وستتمكنين من إنجاز روايتك... لم يتحسن شيء والحياة استمرت كما هي لكن فجأة حدثت إشارة أخرى أجبرتني على إعادة التفكير في حياتي مرة أخرى. مات والدي بالسرطان بعد خمسة أعوام من مكافحة المرض ،قبل موته كان قد قال لي أنه لايشعر بالأسف على حياته لأنه أمضاها فيما يحب• صار الصداع يزداد أكثر في رأسي، والهذيان يشتد، وكوابيس منتصف الليل تتركني في حالة يرثى لها.احتدم الصراع في داخلي ،وكنت متيقنة من أمر واحد أنا أخرب صحتي في عمل لا أحبه ،الخوف من ترك كل شيء ورائي والرحيل كانت فكرة تلح علي وترعبني في آن واحد، لكن الشخص الوحيد القادر على إخراجي من هذه الدوامة هو "أنا"... أنا فقط من ستتمكن من حسم الأمور• في مكتب المحاماة الذي كنت أعمل به كان لي شريك، محامي كلاسيكي عاشق لمهنته، أعلمته برغبتي في الرحيل بدا في غاية الدهشة، سويت معه الأمور العملية والمتعلقات المادية ورحلت• كنت قلقة، ماذا لو فشلت في الكتابة، أو في نشر كتبي؟ كيف سأعيش؟ كلما كانت هذه الأفكار تمر في ذهني أردد لنفسي أنني وحيدة وليس عندي زوج أو أطفال لأقلق عليهم وحدي سأتضور جوعاً في غرفتي، لكن لم يكن هناك وقت للتراجع أو الندم• أخذت راحة طويلة، نمت كثيراً، ثم قررت التفرغ لإكمال روايتي• ثم ماذا حدث بعد ذلك؟ أصدقائي ظلوا أصدقائي، وصرت أحس بسعادة خفية لإيماني بما أعمل به، مازلت أذكر يوم أخبرني الناشر بقبول روايتي الأولى أنني أسقطت فنجان القهوة من يدي، كنت في غاية السعادة •بالطبع لن أدعي أن اللحظات السيئة لا تداهمني هذا يحدث في بعض الاحيان، تحديداً عندما أجلس أمام ورقة بيضاء عاجزة عن كتابة أي حرف، لكن بالمطلق لم أفتقد حياتي القديمة أبداً ،لقد ازدادت قناعتي أن الحياة قصيرة فعلاً وبالكاد تكفي لتحقيق ما نريده، الآن أحس بالامتنان لتلك الإشارات القدرية التي غيرت مسار حياتي كلها، إذ ربما أعود في يوم ما إلى "رافينا" لعلني أستطيع العثور على ذلك الرجل الغريب وأدعوه لاحتساء القهوة معي• ---- ترجمة بتصرف عن موقع الكاتبة