ثقافة الاعتراف باتت عنوان مجموعة من الأنشطة الثقافية المكرسة، اليوم، لتكريم بعض الفعاليات الثقافية التي لعبت دورا كبيرا في الحياة الثقافية الوطنية والعربية. إنها تسعى إلى تجاوز «ثقافة المحو»، أو «النسيان» أو «الإلغاء» التي مورست خلال العقود الفارطة لأسباب أيديولوجية عامة، لكن ثقافة الاعتراف، لا تختلف إلا بالتسمية عن «ثقافة التأبين» التي نمارسها حيال موتانا من المثقفين، إنها تنتهي بانتهاء لحظة التكريم أو العزاء، وكأننا بذلك نقدم التقريظ أو الرثاء الذي يجسد علاقتنا بالمكرم أو المتوفى دليلا على الوفاء والاعتراف. يمكن أن تتجاوز تلك الثقافتان حدود الذكرى أو التذكر، ما لم تنهض على أساس تحقيق التفاعل الثقافي الذي يذهب إلى تجربة المُتذَكر بهدف تمثلها في خصوصيتها وبقصد استثمارها على الوجه الأمثل، وجعلها قابلة للترهين والتطوير، إن التفاعل فعل تواصلي مع الآخر، ويمكن تقسيم الأفعال التواصلية إلى الانفعال أو التفاعل. يكون الانفعال سلبيا حين ينبني على الاستنكار الذي يقوم على رفض «المتفاعَل معه»، عن طريق الرفض المنطلق من أفكار جاهزة، وتصورات مسبقة، كما يتأسس على الانبهار المبني على القبول بدون روية أو تفكير، لذلك نعتبر الانفعال عبارة عن رد فعل، أما التفاعل الإيجابي فقيامه على الحوار والنقاش الإيجابي يجعله قابلا لأن يتحول إلى فعل تتولد منه أفعال قابلة للاستمرار، هكذا يكون التفاعل تجاوزا للمحو والنسيان. إن التفاعل بهذا التصور يمكن أن يجعلنا ننتبه إلى أن المُكرَّم بدوره بنى تجربته على أساس التفاعل الثقافي مع من سبقه، وبذلك قدم فعلا ثقافيا قابلا بدوره لأن يستمر في الزمان، إذا ما أحسنا الوقوف على خصوصيته ومميزاته. كتب الشيء الكثير عن محمد برادة، إنه شخصية متعددة الجوانب والعطاءات، وساهم مع ثلة من المثقفين المغاربة والعرب في إثراء المشهد الثقافي المغربي والعربي، عن طريق جعله منفتحا على التجديد والتطوير، ومواجهة الثقافة التقليدية التي كانت سائدة في بداية الاستقلال. درّس الأدب الحديث، وعرّف بمناهجه الجديدة، وترأس اتحاد كتاب المغرب في حقبة صعبة خلال أواسط السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وأعطاه بعدا جديدا جعله يحتل موقع الريادة، على المستوى العربي. ترجم كتبا متميزة في مجال الحقل الأدبي، وواكب الإبداعات الأدبية المغربية والعربية من خلال دراساته النقدية، وفي عز عطاءاته، تحول إلى كتابة الرواية، مقدما بذلك تجربة لها مكانتها في مجال الإبداع السردي العربي. ما أكثر الجوانب التي يمكن من خلالها تشخيص تجربة محمد برادة، ومساهمته في المشهد الثقافي المغربي والعربي. كان لحضوره السياسي، من خلال العمل الثقافي الذي تبوأ فيه مكانة خاصة ورائدة، أثرُه الخاص في الجيل الذي عاصره، ومن جاء بعده، وبما أن هذا الأثر كان مقيدا بإكراهات المرحلة وتداعياتها الحبلى بالصراعات والتناقضات، بين التوجهات الثقافية والسياسية، فقد كان الانفعال بحضوره المتميز مؤسسا على الانبهار تارة، والاستنكار طورا. لا يمكن لأي مثقف أن يحتل موقعا مهما في الحياة الثقافية العامة، ويمارس تأثيرا ما في تلك الحياة ما لم يكن بدوره قد تفاعل مع من سبقه من المفكرين والمثقفين الذين «تتلمذ» على أيديهم بشكل مباشر، أو من خلال تعلقه ببعض أعمالهم المقاومة للزمن. أتذكر في هذا السياق كتابا لإدغار موران يتحدث فيه عن أساتذه من الفلاسفة الذين أثروا في حياته وفكره، عن طريق تفاعله مع إنتاجاتهم التفاعل الإيجابي الذي جعله ينجز أفعالا يتميز بها، وجاء الكتاب تحت عنوان «فلاسفتي»، ورغم تناوله للعديد منهم ممن أثروا في حياته شدد على أثر باسكال على نفسه وفكره. نجد في كتابات محمد برادة، وفي دروسه وأحاديثه حضورا للعديد من الكتاب والمثقفين الذي تفاعل معهم، ولقد استهواه بعضهم إلى درجة أننا نجد ذلك بارزا في كتاباته النقدية والإبداعية أيضا. هل أذكر طه حسين، ومحمد مندور؟ أم أقفز إلى غرامشي، ولوكاش وغولدمان، وبارت، وباختين؟ قراءات محمد برادة ومتابعاته للإبداع والدراسات الثقافية والنقدية الأدبية متعددة ومتنوعة، ويمكنني انتقاء من بين العديد من «أساتذته» الذين تفاعل معهم، وتركوا أثرا في حياته وكتاباته شخصيتين اثنتين: لوسيان غولدمان، وميخائيل باختين، وكل واحد منهما كان عنوان مرحلة من مراحل تطوره وفرض مكانته في الساحة الثقافية العربية والمغربية. عندما كانت الدراسات الأدبية العربية في الخمسينيات والستينيات مهتمة بالتحليل الاجتماعي للأدب، مركزة على أثر المجتمع في الأدب، انحاز محمد برادة إلى الاجتهاد الذي قدمه غولدمان بهدف تطوير نوعية العلاقة بين الفكر والمجتمع، من خلال ليس رصد الواقع في النص، ولكن عبر استكشاف رؤية العالم التي تنظم العلاقة بينهما، ومع بروز البنيوية في بدايات الثمانينيات في الوطن العربي، اختار الانطلاق من باختين لرصد العلاقة بين الأشكال والتاريخ، فكان بذلك منبها إلى خصوصية رجلين ساهما مساهمة كبرى في تجديد الفكر والأدب. لكن ذاكرة المحو والنسيان لا يمكن إلا أن تؤدي إلى الانفعال، في ذكراه الثمانين، أتمنى لو يكتب محمد برادة سيرة ثقافية تؤكد أهمية التفاعل، وتبرز قيمة الفعل.