لم تعد أفلام التحريك موجهة للأطفال، فحسب، بل باتت اليوم خطابا رمزيا يعتمده الكثير من المخرجين العالميين ليبثوا عبر أفلامهم رؤى سياسية ومواقف أيديولوجية مبطنة تنتقد الشأن العام عبر صور مُتحركة تحرّك الساكن فينا، وتحرّض على التفكير مليّا في ما يدور من حولنا، لنعيش مُتعتين في مُشاهدة واحدة: سحر التقنية وروعة التفكير. هناك في مساحات اللامكان، حيث الدول القمعية، والهيمنة الكلية والتجانس السياسي، يبقى الفرد أسير الصور والمتخيلات عن العالم من حوله، وكأن “الآن وهنا” مجرد مساحة مؤقتة، فالخلاص ينتمي إلى الخارج، إلى مساحات بيضاء الجميع فيها متساوون، لكن، العزلة السابقة والمساحات المسحوقة، ليست مجرد نتاج السيادة السياسية الوطنية، بل تتواطأ جهات مختلفة لتمكين هذه العزلة، والتحكم بالصور، فنوافذ المخيلة والشاشات لا تصل إلى تلك الأماكن، وكأن الحلم ممنوع على البعض، لا يمكن حتى لهم أن يشاهدوا صوره، كون المحتوى وتدفق المعلومات في قبضة الأقوى، صنّاع الوهم من جهة، ومكرّسي العزلة من جهة أخرى. شهد مهرجان برلين السينمائي هذا العام، العرض الأول لفيلم التحريك الصربي القصير “لا سفر” (un travel) من إخراج كل من نيكولا ماجداك وآنا نيدلجكوفيتش، وفيه يبحث الاثنان عن طبيعة الحلم بعالم جميل، عبر حكاية فتاة تعيش في مدينة تقع في اللامكان القريب منّا، وحلمها بالرحيل إلى “الخارج”، تلك المساحة المتخيلة التي لا نعرف اسمها، فالفتاة أسيرة نظام قمعي، يتسلل بين الأبنية والأفراد، مراهنا على الخطاب الوطني ليرسم الحدود بين “الداخل” العظيم ذي التاريخ المجيد، و”الخارج” الخطر. ويسعى المخرجان إلى رسم معالم العزلة المفروضة من قبل الأنظمة القمعيّة، التي تتواطأ معها الأنظمة الخارجيّة التي تمنع محتوى الإنترنت من الوصول إلى هذا اللامكان، لترى الفتاة نفسها أمام ذات العبارة التي تظهر على الشاشة كلما حاولت البحث عن صورة “الخارج”: (هذا المحتوى غير متوفر في بلادك). وتخبرنا الفتاة التي لم تغادر بلادها أبدا، وعاشت طوال عمرها في ذات الغرفة عن أحلامها بالرحيل، واكتشافها لخدعة الأنظمة الدكتاتورية، التي تستخدم خطاب الوطنيّة والتاريخ المشرق لتخلق التجانس بين الأفراد، وتحوّلهم إلى عبيد في خدمة الوطن. وحين تقرّر الفتاة الرحيل للمرة الأولى، تبدأ المخاوف بالظهور أمامها، فهي ليست فقط مختلفة، بل مكروهة من ذاك “الخارج” الذي ينفيها، إذ نرى لسانها يتطاول ويتحوّل إلى ما يشبه الصبارة، في إشارة إلى خوفها من لغتها، فماذا لو أثارت الرعب إن تحدثت بلسانها الأصليّ؟ في إحالة للمهاجرين الحالمين بحياة أفضل في الخارج المصمم على معاداتهم، وما إن تقرّر الرحيل، وتركب “الباص”، حتى ترى نفسها في المكان ذاته، وكأنها “على هوامش الخارج”. ويحيل الفيلم إلى السياسات العنصرية ضد المهاجرين، عبر نفيهم من مراكز المدن، وتجميعهم في أماكن تمنعهم من الانخراط في المجتمع، ليصبحوا منفيين مرتين، غير مرغوب فيهم، فأحلام المساواة وحرية التعبير التي تحلم بها الفتاة، تتلاشى، لتكون العزلة نتاجا سياسيا، يتواطأ لإنتاجها الداخل مع الخارج، لإبقاء الكتلة البشريّة “المختلفة” معزولة، ومنفية من مساحات المساواة والقانون. ويتم ترحيل الفتاة مرة أخرى إلى مدينتها، وهناك تكتشف أن المدينة تحوي من هم مثلها، حالمات بالرحيل، اللاتي يطرحن ذات السؤال، ماذا لو عبرنا الحدود بأنفسنا، دون جوازات سفر وحواجز تفتيش عسكريّة؟ تبدأ الفتاة مع من هنّ مثلها بتجاوز الجدار الفاصل بين الداخل والخارج، ويقفن عند خط الحدود، وهنا يتبنى الفيلم مفاهيم اللعب، إذ يبدأن بالقفز فوق الخط الوهمي، ثم مسحه، وإعادة رسمه، وضحكاتهنّ تتعالى، ليسألن، ماذا لو كانت الحدود خيارا شخصيا؟ ويبدأن برسم دوائر/ حدود حول أنفسهنّ، وكأن اللعب هنا يتيح لهنّ اكتشاف هشاشة الحدود والقواعد التي يخضعن لها، بوصفها مجرد صور، حسب تعبير الفتاة، إي أنها فقط موجودة في عقولهنّ. نهاية، تبدو الفتيات وكأنهنّ اكتشفن خدعة الهيمنة، ليطرحن تساؤلات عن إمكانية كونهنّ مجرد “دمى” يتم التلاعب بها، وإمكانية الانعتاق من القيود، وكأن الداخل والخارج مجرد أوهام ذاتيّة، لكن، وما إن يبدأن بالحلم، حتى تظهر عبارة “هذا المحتوى غير متوفر في بلادك”، وكأن الفيلم يحيل إلى سياسات الاستثناء الثقافي، والعزل الممنهج التي تطبقه الأنظمة السياسية النيوليبرالية، التي تتحكم برغبات الأفراد عبر ما تمنع وتتيح من محتوى على الإنترنت، لتُبقي الأفراد أسرى أماكنهم، فحتى الإنترنت التي تشكل فضاء حرا للجميع، تخضع لسياسات ورقابة تتحكم بأحلام أولئك غير المرغوب فيهم. وبالرغم من المقاربة الشعرية الطفولية التي يحويها الفيلم، وغياب العنف المباشر، إلاّ أنه يعكس السياسات القمعية التي يخضع لها الذين يعيشون في ظل أنظمة شموليّة، حيث اللون الرمادي الطاغي، والسائل الأسود الذي يتسلل بين الأبنية والأفراد، إلى جانب الجدار الأحمر الذي يفصلهم عن الخارج، وكأن سياسات العزل/ المنع ليست فقط فيزيائية “الجدار”، بل رمزية أيضا، وهذا ما نراه في الحدود التي يمكن محوها وإعادة رسمها، ونهاية تلك التي لا يمكن للفرد تجاوزها والمرتبطة بالمتحكمين بالصور وتدفقها.