أحوال السينما الوثائقية في السنوات الأخيرة شهدت نهضة نوعية، ساهمت في بلورة آفاق جديدة لسينما مختلفة تهدم جدار الجمود القديم، وتفتح طريقاً إلي مشهد سينمائي أجمل يراهن علي سينما طليعية تتخذ عنوانها من التجديد والحماس لموضوعات تثير النقاش وتتضح من خلالها الملامح السينمائية الجمالية والدرامية والإنسانية في ذات الوقت، حالة إبداعية منبثقة من رغبة في كشف المستور أو الغوص في متاهات الحياة اليومية في بلادنا المتورطة في الازدواجية الثقافية والاجتماعية عبر أفلام كشفت براعتها في الاشتغال السينمائي، لذا فمن الطبيعي أن تواجه حربها الخاصة في الحضور والاستمرار، ولذا أيضاً يكون لزاماً علينا في المقابل أن نقف في ظهرها وندعمها بقدر إصرارها علي أن تعيد تشكيل المشهد السينمائي، وفي هذه السطور مثالاً علي تجارب عدة تستكمل البناء الجمالي والإبداعي في الصورة والحكاية. سكر برة .. ليس ل"مكسورات الجناح" إلا السينما شارع واضح التفاصيل تولج إليه الكاميرا فتتسلل إلينا مناطق ليست بعيدة في البلاد ولكنها تبدو بلا أثر، أو بالأحري لا ينتبه إليها أحد إلا في حدود معينة وفق حاجة الكشف عن البؤس والفقر.. قري تكاد تكون ملتصقة بالعاصمة، والعاصمة تغض كل البصر عنها ولا يصغي إليها حتي حجر، الكل يعرف المأساة ولا يُرف لأحد جفن، تعلو بعض الأصوات أحياناً ولكن لا أحد يصحو ويمر الأمر كحادثة غامضة، ثم تُكمل الحياة دورتها علي إيقاع النسيان، فتتوه في الرحلة صبايا كبرن قبل الآوان ولم تستعدن طفولتهن التي ذُبحت علي أعتاب هاوية البيع الرخيص باسم الزواج الذي لم يكن سوي خطوة عابرة علي جسر متهاو، وحين ينهار الجسر تجد الصبية نفسها وحيدة تلاطم أمواج المجتمع بعد هروب الزوج الثري العجوز وعجز الأب عن المسئولية وتنصله أساساً منها بعد إنفاق الجنيهات المعدودة التي حصل عليها مقابل بيع ابنته، فيما يظل الفقر نصيبهم وتواجه الابنة وحدها الحياة العاتية. من "المراجيح" والكاميرا تدور حولها فتظهر كأن الحياة في هذه اللحظة تعلو وتهبط أو أنها تلف في دائرة لا نهاية لها، إلي "توك توك رايح" و"توك توك جاي" يقطع الصورة والطريق علي الأرض "المكسَرة"، إلي "نحمده" فتاة تبيع "الخضار"وبابتسامتها العفوية تتساءل وتجيب بدهشة مصاحبة لوجه تختلط فيه البراءة والذكاء لبنت تصر أن تفهمك أنها "ناصحة": "بيصور عشان الجرجير .. الجرجير بنص جنيه" وطفلة صغيرة تأكل من الخضار وهي تضحك كأنها ستفلت من فخاخ المصير الموجع الذي اصطاد أخريات أو أنها تُدجن لمصيرها الجارح. مدخل هو الإشارة علي حياة تبدو في وجوه فتيات فيلم "سكر برة" تفيض بالسكر، لنكتشف بالتصاعد أن السكر "برة"، حيث يأخذنا المخرج باسل رمسيس إلي هذه الحقيقة في فيلمه الذي صوره في شوارع الحوامدية والعزيزية وأبو النمرس في الفترة من 29 يونيو إلي 7 يوليو بالتزامن مع سقوط مرسي كما يقول تيتر الفيلم الذي أنتجه مركز وسائل الاتصال الملائمة من أجل التنمية (أكت) بتمويل من مؤسسة دروسوس، مستعرضاً حكايات صغيرات يتم بيعهن في سوق أكبر، نخاسة مقنعة في ثوب الزواج وزواج الصفقة عبر سمسار يأت بأثرياء عرب مُسنين غالباً من دول الخليج يشترين هؤلاء الفتيات مقابل مبالغ صغيرة يحصل عليها الأب والأم، فيما البنت تُقذف في "جهنم الحمراء".. الجريمة متكررة ومعروفة باسم الزواج، ومقيدة في دراسات وأبحاث اجتماعية مُثبت فيها أن 38٪ من الفتيات لا تزيد أعمارهن علي 16 تعرضن لها، والفيلم يقترب من عوالم هذه الجريمة عبر قصص الصغيرات اللاتي بدل أن يذهبن إلي المدرسة يتزوجن كسلعة تُباع رخيصاً، وربما أن هذه النوعية من التجارة ليس جديداً وعُرف تقريباً منذ السبعينيات حيث انتشرت مفاهيم السلوك الاستفزازي والبحث عن الثروة، فيما تزايد الفقر ومع الهجرة إلي الخليج ظهرت أنماطاً اجتماعية تشجع البيع والثراء بأية طريقة، وكانت الأسرع هي تزويج البنات صغيرات السن لرجال الخليج ، الزواج السياحي كما أطلق عليه بعض علماء الاجتماع حين رصدوه كنوع من العبودية المعاصرة التي جلبتها النكسات السياسية المتعاقبة التي أضاعت البلد من أساسه. تلتقط الكاميرا الوضوح والعلانية والخفايا في القاع، العمق الكبير لمجتمع بائس وناسه الأكثر بؤساً، المساحة الأكبر للجرح العميق في النفس والروح والجسد، وفي الخلفية أصوات كنعيق البوم لشيوخ يفسرون الدين حسب قناعاتهم الذكورية ويجورون علي المرأة بوصفها الكائن الأضعف و"مكسور الجناح" أو "الضلع الأعوج" وبالتالي لا تصح لها المساواة، وفي الحقيقة فإن الموضوع هنا في هذا الفيلم ليس نسوياً وإن بدا في جزء من تركيبته كذلك، لكنه ينسحب علي قهر جماعي خلقه الفقر الذي جعل الرجال "بطالة" والنساء "معيلات"، صوت شيوخ الفتاوي الدينية يعلو بكلمات هي فقاعات صابون وشاهد من شهود الانحدار في ذات الوقت، وقبلها نسمع صبيا أرعن هو نفسه مشتت بين هويته مصرية أو خليجية يجادل و"يناكف" بائعة الخضار ويقول: " أنا غير أختي.. البنت لازم تتجوز"، حسماً لفكرة التعليم والزواج. نحمده، حنان، أم أوسة، ميرفت، شيماء، القصص في ظاهرها وباطنها المجتمعي والإنساني صادمة كقسوتها المستلة من واقع العيش اليومي ل"بطلاتها" المكسورات عند الخط الفاصل بين إنسانيتهن المسلوبة ومتاهاتهن المفتوحة علي الخيبة والبيع، تخرج من قاع مجتمع يسيل الفقر من جدرانه وإن ظهرت البيوت المبنية حديثاً بالطوب الأحمر دليلاً مشوهاً علي " شوية فلوس"، وفتيات منذورة للشقاء ومقيمة في أرجائه، ما فعلته كاميرا باسل رمسيس جعلتنا نستعيد وجوههن المنسية والمشوَبة بصنوف الشقاء من كل جانب.الشخصيات المقدمة مستلة من واقعها الحقيقي إلي حالة سينمائية قد تكون أرحب، لكنها صرخة ضد الحال وما آل إليه. لا يحتاج الفيلم إلي دلائل أكثر من القصص التي استعرضها ليشير إلي انحدار ما، لا يحتاج إلي مزيد من الشواهد الحية واليومية، التي تعكس حجم البؤس الكامن في أرجاء من بلادنا، لكن لا بأس في تقديم هذه النماذج لطرح كل الأسئلة المعلقة والحتمية عن بشر مهمشين وقابعين في الحد الواهي بين الجحيم والخراب. الأعوام القليلة الفائتة شهدت ظهوراً ملحوظاً للسينما الوثائقية العربية وانبعاث لنهضتها، خصوصاً بعد تحرر النص الوثائقي من تقنياته التلفزيونية ومواضيعه العامة، مخترقاً موضوعات اجتماعية وسياسية وثقافية وتربوية وسلوكية كانت من قبل في موضع المحرمات لا يجرؤ أحد علي اقتحامها أو حتي الاقتراب منها، ومن هذه النقطة فإن فيلم "سكر برة" إضافة نوعية إلي لائحة الأفلام الوثائقية، وحالة سينمائية ترتكز علي ثنائية الشكل والمضمون، وتدخل معاقل اجتماعية ممنوعة علي كثيرين، حيث تكشف هواجس تخص شأن غير معمم لكنه مفتوح علي أبعاد إنسانية تصيب المجتمع عامة، ما يثير انفعالات مشاهديه.. الحيز المحلي الذي يخص هذه القري التي تبيع بناتها، ينطلق ليقدم قراءة عامة لمجتمع يخنقه الفقر والعوز، صورة مزدوجة لا تقتصر خطوطها علي هواجس فردية لكنها تختصر شكل الجماعة في متاهة الواقع القاسي، ووجهها الآخر يسري متسللاً في رافد السينما الوثائقية وجمالياتها مواكباً الموضوع الذي يركز علي حكايات الفتيات وأحوالهن الراهنة دون أن ينس أو يتجاوز المشكلة الحقيقية. مشاهد الفقر والتوك توك والسوق وبائعات الخضار والطفلة الصغيرة، والصغيرات عموماً اللاتي يسعين في الحياة لأكل العيش أو علي أقل التقدير للعيش نفسه مهما كانت الأحوال، كل واحدة منهن تنتمي لهذه الفصيلة من الطيور التي تختلف ألوانها ولكن لا تختلف أشكالها ولا تختلف مصائرها وحظها، بين كل منهن وتر إن مرت عليه الريح أصدر أنغاماً متشابهة ذات مزيج من الأنين الصارخ والرقة القاسية، كل واحدة منهن خارج دائرة الطباشير التي رسمها المجتمع غير العادل، وكل واحدة منهن تجعل السؤال يظل مطروحاً: كيف يقدم أب أو أم علي ارتكاب جريمة بيع ابنتهم بدم بارد؟ إن هذه القضية تستوجب تحرير السؤال من علامات الدهشة والاستهجان، لأن حادث البيع لا يتخذ شطل الشذوذ الفردي، فالبواعث عليه ليست إلا انعكاساً للفساد والفقر. كر وفر بين الناس والفقر في فيلم كامل الوضوح، فكل شيء في "سكر برة" طبيعي وحقيقي يطوق الجروح في نفوس ممزقة تمشي في متاهات ضيقة إلي نفق رمادي، ومع ذلك فإن الفيلم يأت كنقطة أمل تشع علي البعيد وعلي جغرافيا نتمناها أكثر اتساعاً وسينما أكثر حماساً للفن السينمائي وحكايات بشر يقولون: "إننا كنا هنا" دون أن تمحيهم أو تهزهم أي زوابع كآخر لقطة في الفيلم لنساء يعطين ظهورهن للكاميرا ويمشين في طريقهن وخلفهن زوبعة ترابية تتواطأ مع قسوة مستمرة. 88 .. وخفف الذكري عن الأنثي وصف الحال مهارة لم يؤتها الكثيرون، فما بال الفراشات حين يكن مرئيات ويجعلن السماء صافية، هو ما نتلمسه ونحسه في فيلم "88" للمخرجة روجينا بسالي، فيلم عن نساء أخريات قررن أن تعيش الأسطورة طويلاً، ولكي يتحقق ذلك فكان لابد من صنع الأسطورة أولاً والتحرر من حصار واقع يتلكأ في أن يستجيب للحالمين، نساء كالفراشات يعشقن النور ويسعين إليه مهما كلفهن ذلك، في مجتمع محاصر بتقاليد غير منطقية، نساء عشن الحلم، ومشين علي الشوك لتحقيقه، وأردن النجاح فكان من نصيبهن، والفراشات في الأساس مخلوقات خارقة، وال88 هي الفراشة الأجمل بألوانها والرقم المكتوب ببروز علي جناحيها كأنه يمنحها خصوصيتها في الجمال والتميز فيشرق بها المدي وتصغي إليها بعض المجتمعات في حيز لا متناهي من التفاؤل حتي أنها تعتبرها تميمة الحظ، بينما في مجتمعنا تتعرض النساء ال88 لشتي أصناف المضايقات (المجتمعية، الإنسانية)، وهو ما يرصده الفيلم الذي تم إهداؤه لروح الكاتبة والمناضلة فتحية العسال، واحدة من فراشات ال88 اختارت من البداية الطريق الأصعب وسعت إلي مواجهة التحديات بمزيد من الإصرار علي تمزيق الأقنعة، وتعرية البيئة المجتمعية، وإهداء آخر إلي روح المخرج الراحل محمد رمضان، واحد من مناصري الفراشات ومبدع غادر وهو ينقش خطوطه الأولي علي خارطة التجديد السينمائي. بدون تفصيلات مزعجة أو "فزلكة" تتنقل الكاميرا بين حكايات مبدعات تقدم صوراً مختلفة لتجارب إنسانية لا تنتصر لفكرة عنصرية أو عدائية بين المرأة والرجل، لكنها تتجه بثقة نحو المساحة الإنسانية التي تحملها علي محمل الحرب الشريفة من أجل تكوين الذات الفيَاضة بالحلم والمتجاوزة لأية متاريس أو عراقيل قد تصادفها في طريق هي تعرف جيداً أنه طويل وغير ممهد. الكاميرا تبوح وتعبر في تنقلها من حكاية إلي أخري ومن وجه مبدعة إلي وجه مثيلتها، فتبدو كل واحدة منهن كأنها تبحث عن معني مختلف للحياة، حكايات تشكل نواة الحياة اليومية لهن، الفتيات اللواتي يتحدثن أمام الكاميرا لسن عاديات هن نجمات مجتمع مقيمات في سؤال جوهري، متصل بمعني العلاقة بالآخر، وبمعني حضور الرجل في حياتهن، وإلي أي مدي كان هذا الحضور عقبة أو حافزاً للصعود، سؤال محسوم الجواب عنه، صحيح أنه لاشيء محسوم مائة في المائة، فلا شيء علي إطلاقه هكذا، لكن الأسئلة مشروعة والفيلم يعتمد علي السرد، وهذا مهم بدوره في صورة مكتملة البناء تستعرض تشابك الصور في واقع المبدعات الست: المخرجة هالة خليل، السيناريست مريم نعوم، الفنانة التشكيلية والكاتبةتياسمين الخطيب، الفنانة سارة البطراوي مصممة ومحركة العرائس، ود. شيرين أبو النجا ناقدة وأكاديمية، ود. منال محي الدين عازفة الهارب الشهيرة.. بين رفض الأهل وعثرة الرجل وتأويلات مجتمع يراوغ طموحات المرأة وإنسانيتها تواصلت الحكايات كاشفة عن مخاض النجاح الصعب، لا تتشابه الحكايات ولكنها تتشابك عند تلك العقدة "المعرقلة" في معادلة الحضور والغياب التي تخص كيمياء المجتمع في فيلم سعت من خلاله المخرجة روجينا بسالي لترتيب قطع البازل في حكايات رسمت لوحة لمجتمع تعتمل فيه التناقضات التي لا تنجح في حرق الفراشات وذلك عبر فكرة نُسبت إلي الكاتبة ياسميت الخطيب وكتبتها المخرجة مع الكاتب زين خيري. الكعكة الحجرية .. الشعر يكتب التاريخ علي الشاشة ومن سينما توثق للمرأة في حالات متباينة إلي سينما توثق للوطن وفيلم تخرجه امرأة، فهل يمكن للشعر أن يكتب التاريخ، أن يمنحنا الشعر صورة للتأمل والحنين وأن يمنح للتاريخ ذاته فرصة لتدوين عواطفنا وحمية أفكارنا الخرافية عن الزمان والمكان من الانهيار الأخير؟ .. هذا ما فعلته المخرجة أسماء ابراهيم في فيلمها "الكعكة الحجرية.. ميدان التحرير"، من إنتاج قطاع قنوات النيل المتخصصة، والحائز علي شهادة تقدير في الدورة الأخيرة للمهرجان القومي للسينما، الذي أهدته أسماء إلي الشاعر أمل دنقل واستلهمته من قصيدته الشهيرة "أغنية الكعكة الحجرية" التي تعد واحدة من أهم قصائد الرفض السياسي، و"الكعكة الحجرية" هي الاسم الرمزي لنصب تذكاري لم يكتمل منه سوي قاعدته، التي كانت تتوسط ميدان التحرير، محاطة بمساحات خضراء اعتصم فيها طلاب السبعينيات معلنين احتجاجهم علي سياسات السادات وراسمين علي جدار الكون حلمهم الأبدي وحناجرهم صدَاحة بالهتافات والأغاني الوطنية، وكما كان المثقفون يدعمون الحركة الطلابية في السبعينيات ويجلسون في المقاهي المحيطة بالميدان يشاركونه إيقاعه الصاخب الذي يصنع الحكاية أو القصيدة، استهلت أسماء ابراهيم فيلمها بهذا الرجل الصامت (يجسده الممثل محمود عبدالغفار) الذي يرتشف قهوته علي مهل في ذلك المقهي المطل علي ميدان التحرير وتتغير تعبيرات وجهه من وجوم وفرح عابر إلي قلق، فيما تتسلل موسيقي عبدالوهاب وصوته في الخلفية (يا ناسية وعدي) وتتوالي عناوين الصحف: "مصر تولد من جديد" .. " الشعب أسقط النظام"، وتطالعنا مشاهد الاحتفال بالتنحي ومشاهد ثورة 25 يناير ومقاومة الثوار، يأخذنا الفيلم إلي منحي آخر مواز يكشف لنا تاريخ ميدان التحرير من مجرد أرض زراعية إلي ميدان الاسماعيلية، إلي تفريعات وشوارع تدخل وتخرج منه وزحام مروري، إلي مركز لثورات كثيرة اندلعت عند تلك الكعكة الحجرية التي تحج فيها قلوب المصريين وأجسادهم واتي مازالت تمتليء بنبضات قلوب الحالمين والطامعين كما يقول التعليق الصوتي في الفيلم، ويُطوحنا بين التاريخ والحاضر علي كلمات أمل دنقل: أيُّها الواقفون علي حافة المذبحة أَشْهِروا الأسلحة! سقطَ الموتُ، وانفرط القلبُ كالمسبحة والدّمُ أنساب فوق الوشاحْ! المنازلُ أضرحةٌ، والزنازن أضرحةٌ، والمدي.. أضرحة نقلات ممزوجة بموسيقي عبدالوهاب ورشفات من فنجان القهوة والنظرة المشوَبة بالحزن والترقب والفرح والقلق والكعكة الحجرية وناسها وثورتها وشمعة أمل دنقل وكلماته تنساب عند مفترق المشاهد: دقّتِ الساعةُ الخامسة ظهر الجندُ دائرةً من دروعٍ وخُوذاتِ حربْ ها همُ الآنَ يقتربون رويداً.. رويداً.. يجيئون من كلّ صوبْ والمغنّون - في الكعكة الحجريّة - ينقبضونَ وينفرجونَ كنبضةِ قلبْ ! وهنا يبدو صوت الشعر والمكان كأنهما يؤسسان لفيلم، ولكن لا يمكن قراءة فيلم أسماء ابراهيم فقط داخل هذا الإطار، فالدخول إلي عمق الصورة يعكس رغبة إنسانية في فهم ما يحدث من خلال حكاية ميدان كان دائماً جسراً للعابرين في ملحمة النضال ومعارك الحريات والتحرر، وكان أبعد من الجغرافيا الصغيرة لمكان حتي لو كان هو محور الثورات ومهد ميلادها، فلا شكّ في أن الفيلم شهادة بصرية جديدة ترسم أفقاً لحياة لم تهدأ، وحكاية تصنع من التاريخ فصلاً جديداً، وشعر يُلهب جراح الغياب والحضور.