ضمن الفعاليات الثقافية لمهرجان أصيلة الدولي في دورته الأربعين انعقدت ندوة فكرية بعنوان «ثمّ ماذا بعد العولمة» شارك فيها باحثون وسياسيّون من دول عربية وغربية وآسيوية وافريقية. وقد طرح محمد بن عيسى، رئيس منتدى أصيلة، في افتتاحية الندوة مجموعة من الإشكالات المتصلة بظاهرة العولمة منها أنّ العالَم يجتاز الآن أدقّ وأحرج التطورات الاقتصادية والسياسية سواء على صعيد العلاقات الثقافية أو على صعيد المسارات السياسية بين الشعوب، وهو ما جعل البعض يقرُّ بانتهاء أحلام العولمة بسبب تأثيراتها السلبية، حيث ساهمت في تشظّي منظومة القيم والهويات الإنسانية، بل إنّ الراهن العالمي لا يُخفي نزوعَ بعض القادة السياسيّين وبعض المفكّرين نحو شعبوية ضيّقة طالت نُظمًا سياسية هنا وهناك، ونحو انعزالية محلية عنيفة، بل ونحو مبالغة في إعلاء شأن القوميات والعنصريات والإثنيات التي أحدثت انفجارات سياسية وإرهابية، وهذا أمر يحيل إلى أنّ العولمة قد أنتجت عكس ما كانت قد بشّرت به في مرجعياتها الأولى. والحقّ أنّ متابعة مداخلات المشاركين في هذه الندوة التي امتدّت على مدار يومين تكشف بجلاء عن عمق مأزق العولمة، حيث توزّعت الأفكار فيها على صنفيْن: أفكار تُقرُّ بفشل منظومة العولمة في تحقيق سعادة الشعوب، وأخرى تذهب إلى اعتبار أنّ العولمة ما تزال تمثّل الجنة التي سيصير إليها واقع البشرية. هياج العنف من المداخلات الجريئة التي حاولت رصد أزمة العولمة مداخلتان: الأولى مداخلةُ «بينيتا فيريرو والدنر»، رئيسة مؤسّسة «أورو- أمريكا» ووزيرة خارجية النمسا السابقة، والمفوضة الأوروبية السابقة للعلاقات الخارجية، والثانية مداخلة الشاعر ووزير الثقافة والإعلام المغربي السابق محمد الأشعريّ. حاولت بينيتا فيريرو والدنر» أن تقف على مظاهر أزمة العولمة انطلاقا مما تحقّق منها في الواقع. فقد ذكّرت الحضورَ بأن منجزات العولمة التكنولوجية العابرة للقارات إنما هي تُخفي واقعا مريرا عاشته شعوب الأرض على مدار الثلاثين سنة الماضية. فما إن انتهت الحرب الباردة وسقط جدار برلين حتى هاج العنف في الأرض، فوقعت هجمات أيلول/سبتمبر سنة 2011 بأمريكا، واستتبع ذلك غزو بوش لأفغانستان والعراق، ثم ظهرت الأزمة المالية العالمية الخانقة التي ألقت بظلالها على طبيعة العلاقات السياسية بين الدول، وساهمت في تفشي ظاهرة البطالة وعموم اليأس بين الشباب في العالَم. وقد أدّى هذا الوضع إلى بداية تفكّك الاتحاد الأوروبي. هذا بالإضافة إلى ظهور الإرهاب في الشرق الأوسط، وتنامي ظاهرة اللجوء إلى الغرب، وعجز الدول الغربية عن الإيفاء بوعودها الإنسانية إزاء الهجرة غير الشرعيّة من دول افريقيا وبعض مناطق الشرق وظهور الرئيس الأمريكي ترامب وسياساته المفاجئة. ولعلّ من أبرز أزمات العولمة بالنسبة إلى «بينيتا فيريرو فالدنر» هي المتمثلة في عجز الأممالمتحدة على اتخاذ قرارات صارمة تضمن سلامة المناخ وحريّة الإنسان وكرامته، بل عجزها عن تأسيس نظام من الحَكَامة يخفّف من سياسات العنف الماديّ والرمزيّ في العالَم. وخلصت هذه الباحثة إلى القول بأنّ الراهن العالميّ محكوم بتكنولوجيا متطوّرة لا يعنيها سوى الربح السريع والوفير وإنْ كان ذلك على حساب انخرام المنظومات القِيَمية التي تحتاجها حياة الناس وتكون بينهم الوازِعَ الذي يَزَعُ بعضَهم عن بعض على حدّ عبارة ابن خلدون. وانصبّ اهتمامُ مداخلة محمد الأشعري، وقد ألقاها بروح انفعالية عالية ذات معجم يساريّ واضح، على ضرورة إنقاذ العولمة من شرور نفسها. حيث اعتبر أنّ سرديّة «العولمة السعيدة» التي نظّر لها مفكّرو الغرب الرأسمالي قد أفل نجمها حتى لدى صانعيها، فنحن متأكّدون اليوم من أن «صُنّاع العولمة السعيدة أصبحوا الآن غير سعداء على الإطلاق»، ومن أن الواقع البشريّ يشي بكون تلك السعادة لم تكن إلاّ حلما للإيقاع بالشعوب الفقيرة وجرّها إلى منطقة مظلمة لا تملك فيها تسيير أقدارها السياسية والاقتصادية والثقافية، بل إنّ تلك الشعوب قد أُفرغت من هوياتها صارت لقمة سائغة لأهواء النظام الرأسمالي الغربي يوجّهها حيث تقتضي مصالحه هو لا مصالحها هي، وهذا ما جعل الناس يعودون إلى جذورهم ويتشبّثون بمرجعياتهم خوفا من الذوبان في الآخر المسيطر تكنولوجيا وماليا. وقال الأشعري إنّ زمن العولمة قد انتهى، بل إن العولمة الآن لا تزيد عن كونها «قوسين انفتحا وهما في طريقهما إلى الانغلاق» وما نعيشه اليوم من تشتّت في السياسات الدولية وتناقضاتها إنما هو صورة من صُور الإفاقة من ذاك الوهم الحالِم. وأكّد الأشعري حقيقةَ أنه لمّا بات العالَم منقسما إلى فئتيْن أولاهما قليلة تحتكر التطوّر التكنولوجي وثانية كثيرة تجاهد يوميا من أجل توفير الرغيف والماء الصالح للشرب، صار لزاما على شعوب الأرض قبل آباء العولمة ومنظّريها أن تجد نظاما كونيا آخر يوفّر العدالة الاجتماعية للجميع ويُفسح في المجال لظهور شراكة بشرية لبناء عالَم جديد يسود فيه التسامح والعدل واحترام حقوق الإنسان. منطق الآباء تكفّل الأمريكي آلان جرسن، ورئيس مؤسّسة «آلان جرسن للقانون الدولي»، والباحث في علاقات أمريكا بالعالم العربي، بتقديم مداخلة تضمنت مجموعة من الأفكار المتصلة بظاهرة العولمة بدت لنا مناقضة لما جاء في مداخلتيْ الأشعري و«بينيتا فيريرو والدنر»، حيث اعتبر أن مصطلح العولمة غير شائع في الملفوظ السياسي وحتى اليومي للشعب الأمريكي، لأن العولمة لا تمثّل سؤالا جوهريا في الشأن الفكري والسياسي الأمريكي عدا في بعض الدراسات، وردّ هذا الأمر إلى كون العولمة لم تعد فكرة بل صارت «منجَزة» في المعيش الأمريكي، وتُشاهَد بالعين. وقال إنّ هناك إشكالا قد ظهر مؤخّرا في مسألة العولمة، وصورتُه هي أن العولمة كما أصّل لها المفكّرون في بحوثهم تستهدف بناء جسور تواصل بين كل الشعوب، غير أن تلقّيها قد انزاح بها صوب خلق فجوات بين الفئات، فالعولمة ليست مسؤولة عن كيفية فهمها وتلقيها من قْبل الآخرين، وربما هذا هو سبب نجاح البعض في تحويلها إلى عولمة عنف على حدّ ما يلاحظ في ظهور الجماعات الإرهابية التي استفادت من التكنولوجيات المتطوّرة، وإلى عولمة تفقير بدل التوزيع العادل للثروات، وإلى نزوع إلى اللاتواصل بدل تجسير العلائق بين الشعوب. ودعا آلان جرسن إلى ضرورة ألاّ تكتفي الدراسات المتصلة بالعولمة برصد تطوّراتها التقنية فحسب، وإنما عليها أن تهتمّ بجانبها الأخلاقيّ بما فيه من تسامح وإخاء وعدل. وقال في ختام مداخلته إن مَن يقفون اليوم ضدّ العولمة هم الذين فشلوا في الاستفادة منها، بل إنّ دعواتهم إلى نبذها إنما هي دعوات حسد وانطوائيّة. وفي السياق ذاته قال ميغيل أنجيل موراتينوس، وزير الخارجية الإسباني السابق، إنّ ما يميّز أيامنا هذه هو سيطرة عدم اليقين على أفكارنا حول العولمة، وشعورنا بالخوف من المستقبل، وقد ردّ ذلك إلى أسباب عديدة منها مبالغة بوش الابن في ردّة فعله على تدمير برجي التجارة العالمية، وانهيار النظام الجيوسياسي في الدولي، وسيطرة الشركات العملاقة على التكنولوجيا وريعها الماليّ. واعتبر موراتينوس أنّ ما يظهر من سوءات العولمة أمر مبالَغ فيه، بل ربّما وقع تضخيمه من قبل البعض، ومن ثمّ علينا أن نتذكّر أن العولمة هي مَن أنعشت دولا عديدة بافريقيا، وهي من أدخلت الشعوب جميعا في القرن الحادي والعشرين مسلّحة بأرقى المعارف وتكنولوجيات التواصل، وهي التي وفّرت لنا كل وسائل الرفاه اليوميّ. ووجّه في ختام مداخلته دعوة للجميع بأن «نكون متفائلين، صحيح أنّ العالم أصبح اليوم أكثر تعقيداً وأقل يقيناً، إلاّ أن ذلك لن يمنعنا من أن نكون قادرين على جعله عالَما سعيدًا».