يشهد العالم العربي طفرة كبيرة في الإصدارات الروائية. ولعل العلاقة بين الرواية والروائي هي صلب ما يعبر عنه ويتصدى له النقد تجاه هذا الفن، فالروائي الذي يبحث عن قانون الرواية، ويتأهب دائما للدخول إلى عالمها المتوازن الرحيب عادة ما يجد نفسه في مختبر مكدس بالمعلومات والعلاقات المتبادلة بين المتخيل والواقع، التاريخ والإنسان، الزمان والمكان، الأرض والسماء، الأبيض والأسود، والكثير من الثنائيات والمتناقضات التي تحمل دلالات الواقع المعيش، ولعل ذاتية الروائي تظهر بصورة أو بأخرى في الكتابة السردية وهذا ما يسمى بالإبداع الواعي. يؤكد كتاب “الرواية والروائيون.. دراسات في الرواية المصرية” للناقد شوقي بدر يوسف أن عظمة الرواية تكمن في أنها بدءا من إطلالتها الأولى عند الرواد تصبح بمثابة الفعل الحياتي، والتصوير الدقيق لأفق الواقع اليومي للإنسان وممارساته، ومواقفه مع ذاته ومع الآخرين، حيث أصبح الفعل الروائي من أعظم الاكتشافات التي حققها الإنسان لملاحقة كافة أشكال التطور الفكري والأدبي، والتفاعل على صعيد العلاقات مع البشر. التحرر من الواقع تأسيسا على ذلك فإن الفعل الروائي أخذ يقوم بنفسه بمهمة صعبة، وهي التعبير عن الحياة، والتأكيد على دلالاتها باعتبارها تيارا متجددا متحركا معقدا، أخذ يسمو انطلاقا من هذا المفهوم على أجناس أدبية أخرى كالفعل الشعري والفعل الفلسفي اللذين يحددان أنشطتهما في الشعر والفلسفة فقط، في حين أن الروائي لم يكتف بحصر نفسه داخل مفهوم خاص وثوابت جامدة لا تتحرك، بل على العكس من ذلك، تحولت الرواية إلى تعبير حياتي متجدد ومتطور، وعلى هذا تمكنت الرواية من سحب نفسها من دائرة الجمود والانطلاق في فضاء رحب متحرك، ولم يعد النص الروائي يتضمن مادة جامدة نحتت في وقت ما وكفى، بل أصبح حالة من التفاعل النشط، المتعدد الرؤى والتأويل والدلالة، وأصبحت المهمة الملقاة على عاتق الروائي هي أن يجعلنا ننخرط في عالمه التلقائي الذي يصنعه لنا، وأن نعايش ما هو مرصود داخل فعله الحكائي، وما هو متصل بشخوصه ومواقفه وأحداثه، ثمة ما هو أكثر أهمية من هذا كله، وهو أن على الروائي “تحريرنا” من عالمنا الواقعي المفسد، وسوقنا إلى عالمه المتخيل الأكثر إشراقا وفضيلة، حتى ولو كان تصويره للواقع على أساس مهين وتجسيده لشخصيات وضيعة، ومن ثم فقد أصبحت علاقة الكاتب بالواقع اليومي لمجتمعه وثيقة متعددة الأطراف ومهما بدا أنه يعتزل بنفسه حين يتعامل مع الكلمات، فإنه ليس كيانا منفصلا عن الكيانات التي تجعل لوجوده معنى، ولذا فإن علاقته بضميره، وضمير مجتمعه، وضمير أمته، وضمير الإنسانية هي علاقة أبدية لا تنفصم عراها ما دامت الحياة مستمرة ومنطلقة إلى الأمام. ظواهر إبداعية من خلال ممارسته للنقد التطبيقي يؤكد شوقي بدر يوسف في كتابه، الصادر مؤخرا عن وكالة الصحافة العربية – ناشرون، أن عناصر عامة يمكن تمييزها ونستطيع أن نستنتج منها صيغة معاصرة لما يحدث في الرواية: أهمها أن كثيرا من الروائيين اليوم لا يستريحون لإتباع الأساليب القديمة التي حققتها الإنجازات الروائية في تاريخها السابق، ويسعون إلى إعادة خلق، وتجريب أشكال جديدة عبر التساؤل والجدل المستمر حول الأساسيات، فالقواعد التي قامت عليها الرواية في عهودها السابقة جاءت من مصدرين أساسيين، الجماليات الواقعية لرواية القرن التاسع عشر، التي تؤكد على المرجعية الأساسية للحكي، والتعبيرية التاريخية للرواية، متمثلة في خطاب يعتمد على “الحبكة” و”الشخصية” والسرد المباشر، والآخر على الجماليات الحديثة لرواية أوائل القرن الماضي، وهي تؤكد دائما على المصادر الشكلية والرمزية للعمل الروائي، متمثلة في إعطاء أهمية كبرى للقالب والشكل والأسطورة ومصادر التراث الأخرى في مناحي الخلق المختلفة. وتناول بدر بالنقد التحليلي عدة ظواهر إبداعية من خلال الدراسات التي ضمها الكتاب من بينها: البطل الشعبي في روايات نجيب محفوظ، لطيفة الزيات والبحث عن الزمن المفقود، زمان الوصل، وأسئلة الرواية، القرية وعالم يوسف القعيد الروائي، ما وراء الواقع في رواية “الزهرة الصخرية”، سطوة المكان، والواقع المهمش في رواية “ليالي غربال”، الأنثربولوجيا ورواية التاريخ “نوة الكرم” نموذجا وغيرها من المحاولات التي تفكك عوالم الكتابة الروائية. ويؤكد المؤلف أن النماذج الروائية التي انتخبها لكتابه جاءت وفق رؤيته الخاصة عن علاقة الرواية بالروائي، يقول عنها “إنها علاقة جدلية أن نحاول إبرازها مما سبق نشره في الدوريات من دراسات عنيت أول ما عنيت بوضعية الروائي نحو فنه، وهي تمثل في الحقيقة نوعا من التوحد بين الذات الكاتبة، وما كتبت، إنها علاقة بين الروائي السارد والعملية السردية المتضمنة وجهة نظر صاحبها، ورؤيته تجاه الواقع”. والنماذج المختارة للدراسات المنشورة في الكتاب، لا تمثل كلها كنه العلاقة الجدلية القائمة بين الروائي والرواية، ولكنها تمثل علاقة النقد مع النص من خلال رؤى الكاتب وتجاربه ضمن واقعه، وتجاه النص السردي الذي يصل ويُتلقى ويُؤول، ويجد طريقه من عقل الروائي إلى ذهن وقلب المتلقي، إنه عالم الرواية وأيضا عالم الروائيين، ربما هي نماذج اخترناها من كتابات بعض الروائيين ولكنها ليست كل الرواية، فعالم الرواية من الرحابة والاتساع ما يعجز الناقد والمتلقي أن يلم به كله، لذا فهي محاولات رأينا أن تكون، وأن تمثل حالة من العلاقة بين الروائي وروايته. في تقديمها لكتابها “مدار الحكايات.. مقالات عن روايات عربية” تجاري الكاتبة لنا عبدالرحمن مقولة “زمن الرواية”، وترصد الطفرة التي تشهدها الرواية العربية خصوصا في العقد الأخير، وتدلل عليها ليس فقط بكثرة الإصدارات العربية في مجال الرواية، وإنما أيضا بإقبال القراء النهم عليها وبالجوائز السخية المرصودة لها، لكن النقد الروائي لدينا لم يشهد طفرة مماثلة، فتقول الكاتبة “لعل الروائي الذي يتمتع بحسن الطالع هو ذاك الذي يتمكن وعبر نص جيد من إيصال كتبه إلى النقاد المتخصصين والقراء العاديين في خضم هذا السيل المتدفق من الروايات”. وهنا تستعيد مقولة “موت الناقد” مشيرة إلى نوع من النقد يفرط في استعمال المصطلحات المتخصصة ويميل للإبهام فيستغلق فهمه على القارئ العادي، الذي ينفر منه وقد ينفر من الرواية نفسها. وتختتم المقدمة بتوضيح منهجها في تناول الروايات فتذكر “أردت من خلال هذه القراءات تقديم قراءة ثقافية فنية، وكشف القيم الجمالية للأعمال الروائية المتناولة، إلى جانب نقد الخلل البنائي القائم على الصنعة والافتعال، والتوجه إلى قارئ وقع في غرام الرواية، وجذبه لدوران في مدار حكاياتها وبريقها الساحر”. لا تزعم الكاتبة إحاطتها بتفاصيل المشهد الروائي العربي، ولا تدعي محاولة تلمسها له في كتابها، فعدد الروايات المعروضة أكبر من قدرة أي قارئ على الإحاطة به، ولأنها لم تكتب عن كل ما قرأت، فاختارت مما صدر ما تقرأ، ومما قرأت ما تكتب عنه، واختارت أخيرا من بين ما كتبت لتجمعه بين دفتي كتابها الذي ضم سبعا وعشرين مقالة تعرض لنفس العدد من الروايات الصادرة كلها ما بين عامي 2006 و2014، فهي إذن عينة، وإن كانت عشوائية، تصلح للتعبير عن المشهد الروائي العربي، وعن مراكز الثقل فيه، فنصف المقالات عن روايات مصرية (13 رواية) بينما النصف الآخر توزع بين لبنان (4 روايات) وسوريا (3 روايات) المغرب (روايتان) بينما مثلت كل من السعودية، العراق، الأردن، تونس، السودان برواية واحدة.كما تصلح في الوقت ذاته لتلمس تحولات الأشكال والمضامين في الرواية العربية خلال العقد الأول من الألفية الثالثة زمن كتابة ونشر الروايات التي عرضت لها الكاتبة. اغتراب وانكسار عبر النماذج التي آثرت عبدالرحمن الكتابة عنها، رأينا الشخصيات الروائية مغتربة خارج وطنها حيث يختار الكاتب لأحداث روايته فضاء غربيا مثل “عواطف وزوارها” للحبيب السالمي، وتدور أحداثها في باريس، بينما كانت لندن مكانا لأحداث رواية هاديا سعيد “بستان أحمر” ومدينة بطرسبرغ الروسية المكان في رواية “ليلى والثلج ولودميلا” للأردنية كفى الزعبي، وكان طبيعيا أن يثار في هذه الروايات سؤال العلاقة بين الشرق والغرب، لكنه جاوزها إلى روايات أخرى كانت فضاءاتها عربية وغربية مثل “بعد القهوة” للروائي عبدالرشيد محمودي، وفيها يتتبع حيوات الشخصيات ومسارات تحولاتها عبر أربعة عقود بين القاهرة والإسماعيلية وفيينا، وترى الكاتبة أن عنوان الرواية “بعد القهوة” يأتي معبرا عن حالات معينة كما في المشهد الأخير فترى أن حضور القهوة كمشروب يرتبط بوجود البطل في الغرب، في مقابل الحضور المتكرر للشاي وطرق إعداده وارتباطه بثقافة الريف المصري. وإذا كانت الرواية قد اغتربت مع شخصياتها فإنها وعبر حركتهم وتشابك علاقاتهم رصدت التحولات والانتقال من البداوة إلى المدنية كما في رواية بدرية البشر “غراميات شارع الأعشى” والتحولات والتغيرات التاريخية الحادثة، ومراقبة ما تفعله بأرواح الشخصيات وأجسادهم. وهذا ينطبق أيضا على ما حدث في العراق عبر رواية “زجاج الوقت” لهدية حسين، أما في رواية “ليلى والثلج ولودميلا” تتناول الروائية الأردنية كفى الزعبي المرحلة الزمنية التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي في سنوات التسعينات من القرن الماضي، وكما يتضح من العنوان المركب فإن كل مفردة من كلماته الثلاثة ترمز إلى أن قضية ليلى هي البنت العربية الشاهدة على الأحداث، أما الثلج فإنه بطل رئيس في القصة أيضا، حيث سيحضر في مواقف مفصلية في حياة الأبطال، كما لو أنه عنصر حي، ولودميلا هنا هي التحول الذي عصف بقوة بالبلد، ونتج عنه سيل من الانهيارات، كما سنشاهد في الرواية. وتضيف الكاتبة “تشغل فكرة التحولات والانهيارات النفسية والاجتماعية جانبا أوسع من السرد”، هذا ما نجده عبر شخصية “لودميلا”، وهي إحدى الشخصيات المحورية التي تتصدع علاقتها مع زوجها بسبب الفقر ومراهناته المالية الخاسرة، فتندفع في علاقات أخرى لتؤمن لها حماية مالية، أما “لاريسا” المرأة الأربعينية التي حققت من النجاحات المالية ما عجز عنه الرجال، ثم خسرت كل أموالها وصحتها بعد علاقة مع شاب يصغرها استولى على كل ما تملك. إن انهيارها التام في عمر متقدم ينطوي بالرغم من واقعيته على مدلول رمزي. وهناك أيضا “مكسيم نيكولافتش” زوج لاريسا، المثقف الذي انهارت أحلامه مع انهيار البروسترويكا، ومع انهيار زوجته المالي والمعنوي، فانتقل للإقامة في الشقة التي تسكن بها لودميلا، وليلى، ونتاشا. من هنا لا تخلو مصائر الأبطال جميعا من الانهيار أيضا، فثمة تحولات تعصف بأقدارهم، وتلقي بهم على أراض يغمرها الثلج في ليل شديد البرودة يجبرهم على البحث عن فرص مختلفة للنجاة بأنفسهم. لم يكن مكسيم نيكولافتش هو الوحيد الذي تعرض للانكسار، أيضا الشخصيات في “غراميات شارع الأعشى”، وفي “باب الليل” لوحيد الطويلة، وفي روايات أخرى عانت انكسار الحلم، وواجهت السجن السياسي كما في روايتي المغربيين يوسف فاضل “طائر أزرق يحلق معي” وعبدالعزيز الراشدي “مطبخ الحب” اللتان تنفيان إمكانية الحل الفردي لمشاكل شخصيات تعيش في مجتمع مأزوم. وهكذا قامت الرواية العربية – وبحسب تعبيرات الكاتبة – بتعرية القبح وسيكولوجية الخراب في مجتمعاتنا المحكومة بالفساد والبيروقراطية.