«الرسم.. الغاية والوسيلة»، تحت هذا العنوان جاء صالون القاهرة في دورته ال58، احتفاءً بهذا الفن، وبذلك تصبح هذه الدورة بمثابة المعرض النوعي، المقتصر على هذا الشكل الفني الأساسي في الفنون التشكيلية، ففكرة هذا العام تهدف لاستعادة استخدام المواد الأولية والبسيطة فى الرسم، إضافة إلى كون الصالون يعد توثيقاً للحركة التشكيلية المصرية على اختلاف أجيالها، من حيث التقنية والأسلوب والرؤية الجمالية. شارك في دورة هذا العام ما يقارب من 98 فناناً، كما تم تكريم 8 فنانين من رواد التشكيل المصري، وهم.. تحية حليم، سيف وانلي، نحميا سعد، حسن سليمان، السيد القماش، جميل شفيق، سعيد العدوي، وأحمد عثمان. يُذكر أن «صالون القاهرة» يعتبر أول نشاط فني للحركة التشكيلية المصرية، حيث أقيمت دورته الأولى عام 1921. الفكرة وآفاقها تبدو طرافة الفكرة بأن يقتصر الصالون على فن التصوير، وهو البداية لكل الفنون التشكيلية الأخرى كفنون النحت أو الخزف وصولاً إلى التشكيل في الفراغ، لتبدو خطوط الفنان الأولى، وبداية تفكيره رسما (تصويراً) قبل تنفيذ الفكرة في شكلها الفني النهائي. هذا من جهة أن التصوير يبدو كعملية إعداد أساسية للعمل الفني. أما الجانب الآخر فهو استعراض تاريخ التصوير المصري، من خلال عرض عدة أعمال فنية لأجيال مختلفة، وهي مناسبة لم تتوفر بهذا الشكل من قبل، اللهم إلا في معارض جماعية تضم مجموعة من الفنانين، سواء من الرواد أو من أجيال زمن محدد، وبهذا تأتي أهمية صالون القاهرة لهذا العام. الأساليب والمدارس الفنية الملمح الآخر الذي يمكن ملاحظته من خلال الأعمال المعروضة، يكمن في حالة التنوع والتباين الكبير في المدارس والأساليب الفنية، إضافة إلى كيفية تعامل الفنان المصري مع مثل هذه المدارس، كالتعبيرية أو التكعيبية والسريالية. فهل تعد بعض من هذه الأعمال استنساخاً لهذه لمدارس الغربية لم يتعد الأمر التقليد؟ أم حاول الفنان المصري تطويع أفكار هذه المدرسة أو تلك، حتى تصبح معبّرة عنه وعن بيئته في صدق الصدق الفني؟ ناهيك عن محاولات التجاوز والتجديد في الأسلوب، بما يتوافق ورؤية الفنان المصري. كذلك يبدو أن المدارس الفنية وانتهاجها من قِبل الفنان المصري في ظل الأعمال المعروضة ابتعدت تماماً مع فكرة الموضة، التي يمكن ملاحظتها في العديد من المعارض المقامة مؤخراً على ساحة التشكيل المصري، فيمكن أن تتجاور المدارس بدون أن تطغى إحداهما على أخرى لا توجد نغمة شاذة فلم تزل السريالية الشعبية (أعمال مصطفى يحيى) تتجاور والإيحاء بالتكعيبية (أعمال أحمد نوار)، بجانب عمل فني تأثيري (أعمال فاطمة عبد الرحمن)، والعديد من تنويعات بين هذه المدارس تنحاز إلى تحقيق فكرة العمل الفني، الذي استطاع الفنان تجسيدها من خلال لوحاته. البيئة المصرية والهم الذاتي أما من ناحية الموضوعات، فبالضرورة سنجد تنوعها وتباينها، نظراً لعدد الفنانين المشاركين في الصالون. بداية من استعراض البيئات المصرية المختلفة، كالسواحل، أو بيئة الجنوب المصري، بلاد النوبة بشكل خاص (أعمال إيهاب لطفي)، الذي جسد الرجال عبارة عن خطوط تتمثل ملامحهم الظاهرية فقط من خلال ملابسهم المعهودة، كالعمامة والجلباب، كذلك التعبير عن الفئات كعمال المصانع (أعمال فتحي عفيفي)، وصولاً إلى الطقوس المصرية المعهودة، التي تصبح عالماً خصباً للتعبير الفني، كل حسب وعيه ورؤيته لهذا الطقس أو ذاك، كألعاب الطفولة ومؤذن الصلوات الخمس (أعمال سيد سعد الدين)، أو حفلات الزواج (أعمال كيلي قاسم). أما الهم الذاتي فمثلته المرأة، من خلال أعمال الفنانات المشاركات، التي لم تخرج حتى الآن من نفق المباشرة في المعالجة الفنية، بتجسيد موضوعات الحرية والمجتمع الذكوري، وحالات القهر، وما شابه من كلاشيهات المرأة وعالمها، وكأنه نمط يجب عدم الحياد عنه، حتى يصبح العمل نتاج مخيلة المرأة. التائهون من الأعمال اللافتة، التي تنتهج نهجاً ما بعد حداثياً دونما شطط أو افتعال، كعادة المنتسبين، أو الذين يحاولون الانتساب لموضة ما بعد الحداثة أعمال محمد الجنوبي، التي تتخذ حساً وروحاً روائية، حكايات عن شخصيات ضائعة. العمل عبارة عن مجموعة من اللوحات لأشخاص من مختلف المراحل العمرية، وكذا الفئات الاجتماعية، مع كتابة البيانات الخاصة لكل شخص أسفل صورته الشخصية، فهم مفقودون، حيث توضع صورهم في محطات القطارات أو المترو، والميادين العامة، وبجوار بيوت الله الشهيرة في القاهرة، كالسيدة والحسين. هؤلاء التائهون يصبحون من خلال العمل الفني مجتمعاً يتشكل بذاته، من الممكن أن تتعرف ملامح أحدهم، وبالتالي قد تتوحد وتتفاعل مع صاحب الوجه، أو أن يتواصل خيالك لتصبح أنت أحد هؤلاء.. مجرد وجه تائه بين الجميع. وفي الأخير تبدو الطفرة الفنية سمة أساسية في صالون القاهرة ال58، كما أن هذه الأعمال شديدة التباين معاً، فرصة مناسبة لمراجعة حركة التشكيل المصري، ومقارنة فكر أجياله المختلفة، ومدى وعيهم الفني وقدراتهم التعبيرية، كذلك الروح المختلفة لجيل التشكيل المصري الجديد، رغم تباين مستوى وأفكار هذه الأعمال.