من ضمن عروض مهرجان برلين السينمائي ال68 المنتهي حديثا، قدمت المخرجة الألمانية الشابة هنريكا كول ضمن قسم “بانوراما” فيلمها الروائي الطويل الأول “جبريل”، بحضور جمهور ألماني غفير، وهو فيلم جريء في مشاهده الحميمة وفكرته أيضا. يصعب كثيرا معرفة الدافع الذي جعل المخرجة الألمانية الشابة هنريكا كول (34 سنة) تختار موضوع فيلمها الروائي الطويل الأول “جبريل”، الذي شاهدناه في عروض قسم “بانوراما” بمهرجان برلين السينمائي. الفيلم كما يوحي عنوانه ذو الاسم العربي، لا علاقة له بموضوع الساعة في أوروبا والعالم، أي الإرهاب أو تجنيد الأوروبيات في صفوف التنظيمات المتطرفة مثل “داعش” وأمثالها، وهو ما تضمّنه فيلم آخر في “بانوراما”، هو فيلم “بروفايل” لمخرجه الكازخستاني تيمور بيكمامبيتوف، بل إن البطولة الحقيقية للفيلم أو الشخصية التي تستولي على المساحة الأكبر منه، هي شخصية فتاة عربية شابة، أو بالأحرى امرأة مطلقة، هي “مريم” التي ترعى بناتها الثلاث ووالدتها العجوز، وهي مقيمة في ألمانيا، متمكنة من اللغتين الألمانية والعربية، لديها عمل ما، تدبّر أمور المنزل مع والدتها، تجد وقتا للذهاب إلى الحفلات التي تقيمها صديقاتها. نراها في المشهد الأول من الفيلم منطلقة، حاسرة الرأس، ينسدل شعرها الطويل الأسود على ظهرها، ترقص على إيقاعات الموسيقى دلالة على تحرّرها من الصورة السائدة التقليدية للمرأة العربية. بحث مريم عن ماذا تبحث مريم؟ ماذا تريد بالضبط وقد تركت وراءها في المنزل بناتها الثلاث؟ لا شك أنها تشعر بالوحدة، بالرغبة، بالحرمان، تقضي ساعات الليل وحدها أمام شاشة التلفزيون، تشاهد المسلسلات العاطفية المصرية وتتقلّب في فراشها. ذات يوم يطلب منها زوجان من أصدقائها توصيل طرد ما إلى صديق لهما في السجن، فهما ذاهبان في عطلة لزيارة الأهل في لبنان، تقبل مريم ببساطة، وعندما تذهب إلى السجن، تلتقي ب”جبريل” وهو شاب عربي الأصل، وسيم، يذكرها بأنه سبق أن شاهدها قبل فترة في ذلك الحفل الذي رأيناه في بداية الفيلم، وأنه أعجب بها منذ ذلك الحين. وتتكرّر زيارات مريم إلى جبريل الذي يقضي حكما بالسجن لسنوات، لكننا لا نعرف ما طبيعة التهمة التي أدين بها، وليس مهما أن نعرف، بل يكفي أنه ليس مدانا في إحدى قضايا الإرهاب، ربما يكون قد انحرف ومارس السرقة، فهو لم يكمل تعليمه الثانوي، لكنه رغم ذلك يبدي ذات مرة رغبته في الدراسة العليا. إنه على النقيض من مريم التي تبدو قابضة على مصيرها بنفسها، لكنها الآن بدأت تفقد توازنها بشكل أو آخر، فهي قد وقعت ببساطة في الحب، ذلك الحب المستحيل، مع شاب لا تعرفه جيدا، لا يمكنها أن تراه سوى في زيارات قصيرة تحت ظروف معينة تخضع لقواعد السجون، كيف يمكن لمثل هذه العلاقة الغريبة أن تستمر؟ يحصل جبريل بطريقة ما على جهاز هاتف محمول يتم تهريبه له داخل السجن، يصبح الوسيلة الأساسية في التواصل اليومي مع مريم، وعندما تأتي هي لزيارته، تتلامس الأيدي، يختلس العاشقان قبلة في حجرة الزيارة، يعود بعدها إلى زنزانته، وتعود هي إلى بيتها، يمارس الاثنان الاستمناء تلذّذا بتوهّم ملامسة الآخر في الظلام تحت الفراش. هل يمكن أن يستمر الأمر على هذا الحال؟ المخرجة تقسم فيلمها إلى أقسام حسب فصول السنة، وعندما يحل الخريف، يتشاجر جبريل ومريم، هو يفقد أعصابه بفعل تجربة السجن القاسية مهما توفرت الأشياء الأساسية، ثم يزداد الأمر قسوة عندما يكتشف حراس السجن وجود الهاتف المحمول في حوزته، وهو من الممنوعات في السجن، فيصادرونه ويتم استجوابه وإعادة النظر في موقفه. وبعد أن كان قد حصل على فترة يوضع خلالها تحت الاختبار تمهيدا لإطلاق سراحه نتيجة لحسن سيرته وسلوكه داخل السجن، تلغى هذه الفترة وتمتد فترة سجنه فيسقط في الإحباط. والفيلم يقول إن هناك دائما أملا ما رغم الواقع المستحيل، وأن الإنسان يمكنه أن يخترق الصعاب ويجعلها ممكنة، “دعنا نتزوج”.. تهمس مريم بهذه العبارة ويتلقفها هو ويعيد التفكير فيها ويقبلها، وبعد فترة تبدأ المراسم: من السجن حيث يوجد جبريل من ناحية، ومن منزل مريم من ناحية أخرى.. عبر الهاتف، في أغرب عملية زواج يمكن أن تشاهدها في السينما وفي الواقع بالطبع. ويحضر الشيخ الذي يعقد القران إلى منزل مريم بينما تشعر والدتها بالاستياء الشديد، فهي تعتبر تصرّف ابنتها نوعا من الجنون، إذ تقول لها “لقد تخلصنا من قبل من رجل وغد -إشارة إلى طلاق مريم من زوجها السابق- وأنت الآن تكرّرين الخطأ نفسه!”. عن الأسلوب الجميع في بيت مريم في انتظار رنين الهاتف، ثم يأتي الاتصال من قبل جبريل من داخل السجن، وتتم المراسم على هذا النحو ثم تخلي لهما سلطات السجن في ما بعد، غرفة للاختلاء معا، يحضر جبريل الطعام ويقوم بطهيه وإعداده بنفسه.. يرتبكان أولا، ثم يمارسان الحب في مشهد مركب، بحيث يتناقض تماما مع الصورة العربية المتحفظة لمشاهد الفراش. والحقيقة أن الفيلم بأسره محاولة لعرض الجانب الرومانسي في شخصيتي جبريل ومريم، كنموذجين للشباب العربي في ألمانيا، فمريم مثلا تجيد الألمانية، ولكنها تحتفظ بلغتها العربية، أما جبريل فيقول لها إن والده أراده أن يندمج بالكامل في المجتمع الألماني، لذا فقد حرم عليه وإخوته التحدث بالعربية. كاميرا المصورة كارولينا شتاينبريتشر تركز معظم الوقت على وجهي الحبيبين في لقطات قريبة (كلوز أب) كما تركز على التلامس باليدين، على جانب من الوجه، على همسة ما، التفاتة من هنا أو من هناك.. تريد أن تعكس المشاعر، وتخترق النظرات إلى ما يعتمل في الصدور من مشاعر، ولكن الإفراط في اللقطات القريبة لوجه مريم حتى وهي مختلية بنفسها في منزلها يتناقض مع صورتها التي رأيناها في البداية كفتاة متحرّرة لا تعاني من القيود، ففي هذه اللقطات يشعر المشاهد بأن مريم أيضا سجينة داخل مشاعرها وداخل جسدها، بل وداخل حجرتها. وفي أحد المشاهد نراها تتمايل على صوت الموسيقى وهي تدور في محيط المكان، بينما تظهر قضبان حديدية ضخمة في مقدّمة الصورة تحيط بها وتغلق عليها، فهل المقصود أن مريم أيضا سجينة تماما مثل جبريل؟ ولماذا اختارت المخرجة تجريد شخصية جبريل من ماضيها ومن علاقاتها الاجتماعية خارج السجن؟ ربما كانت الإجابة تكمن في الرغبة في تقديم قصة حب تبدو مستحيلة، لكنها تكتمل رغم ذلك بالزواج كما لو كان الاثنان بهذه الطريقة، يخلقان حريتهما بنفسيهما بغض النظر عن وجود الأسوار والقضبان، إنهما يبحثان عن التحقّق والحرية من خلال الحب. والمخرجة هنريكا كول ولدت في بلاك فورست في ألمانيا عام 1984، ودرست علم الاجتماع في جامعة كولون، وبعد أن حصلت على شهادة الدبلوم في علم اجتماع السينما، درست الإنتاج السينمائي في معهد برلين للسينما والتلفزيون وتخرجت منه عام 2002، ومنذ 2014 بدأت تدرس الإخراج في جامعة بابلسبرغ، وخلال دراستها أخرجت عددا من الأفلام التسجيلية والقصيرة التي وجدت طريقها إلى بعض المهرجانات السينمائية.