«النسوية» في الفن اللبناني، موضوع تطرحه نايلا كتانة كوننغ، لأول مرة في معرض تقيمه في غاليري تانيت ضمن مفاهيم معاصرة من حيث الطرح الجمالي، على رغم أن هذه التيمة ليست جديدة في العالم الغربي، إذ إن الحركة النسوية في الفن Feminist art movement بدأت في الستينات مع المطالبة بحقوق المرأة المدنية والمساواة مع الرجل تأثراً بالمدارس الحداثية من أجل تأسيس فن نسوي، بطرق غير تقليدية؛ للمساهمة في «تغيير العالم». ازدهرت هذه الحركة خلال السبعينات في الولاياتالمتحدة الأميركية باعتبارها ثمرة لما يُطلَق عليه الموجة الثانية للحركة النسائية، وهي تُعتبر الحركة الدولية الأكثر تأثيراً على الإطلاق في فترة ما بعد الحرب. إذ تشير إلى المنجز الفني الذي يعكس حياة النساء وخبراتهن إضافة إلى تغيير مفاهيم وأساسات الفن المعاصر. لقد شكل فضاء ما بعد الحداثة حاضناً ملائماً لانتعاش هذه الحركات الانتفاضية الإنسانية للفئات المهمشة اجتماعياً، بما وفرته الفلسفة التفكيكية الجديدة من إقصاء أو تجاوز لمفهوم المركز الغربي الإنسانوي وفلسفته المتعالية. يمثل الفن النسوي تحولاً كبيراً عن الحداثة؛ حيث وضعت الأعمال الفنية للمرأة في فئة مختلفة عن الأعمال التي أنجزها الرجال، كونها مبنية على الاعتراض والتحريض والجسد والبحث عن آفاق جديدة من شأنها أن تعيد الاعتبار للمرأة بعد الغبن الذي لحق بها طوال مراحل تاريخ الفن. ثم ما لبثت هذه الظاهرة أن انتشرت في أنحاء العالم العربي، وهي حاضرة بقوة في نتاج فنانات معاصرات، يواجهن قسوة العلاقة بالرجل والعائلة والثقافة المجتمعية والعادات والتقاليد التي تقيّد حرية المرأة العربية في التعبير. مجموعة مختارة المعرض في صيغته المصغّرة يقطف نتاجاً جماعياً لمجموعة مختارة من النساء اللواتي تركن بصماتهن حاضرة في ذاكرة الفن الحداثي في لبنان خلال عصره الذهبي، وقد أهمل أسماء وازنة (أمثال إيفيت أشقر وناديا صيقلي وسيتا مانوكيان وسواهن) ولكن بالمقابل عرّفنا إلى مسارات نساء وفتيات يعملن على تحقيق فن بصري متصل بكل ما هو متحرر وثائر في علاقته بالذات والآخر والمجتمع والذاكرة (كارولين تابت وجوانا أندراوس ورندا ميرزا ولارا تابت وفلافي عودي) حاملاً آثار الحرب الأهلية اللبنانية والأزمات السياسية وطرائق العيش من خلال وسائط وخامات جديدة من شأنها إثارة مكامن الدهشة إزاء بعض التيمات النسوية ذات الطابع الاجتماعي والنفسي- السيكولوجي. ولا يدّعي المعرض الصفة الموسوعية التي هي من عمل المتاحف ولكنه يقدم صورة عن منجز شائك متقلب المتسوى والاتجاهات (18 فنانة) ضمن طروحات أقل ما يقال فيها إنها جريئة ومتواضعة. قدم المعرض أعمالاً للفنانة بيبي زغبي وهي من النساء الرائدات، عكست في لوحاتها عقلية المجتمع اللبناني حين كان الفن من عمل الرجل ومن هوايات المرأة، فرسمت من بلاد الأرجنتين ومن رحلاتها إلى إفريقيا واكتشافاتها للطبيعة ضمّات من الأزهار الوحشية ووجوه النساء الإفريقيات ومناظر الطبيعة الصامتة، غير أن الدور الأبرز يكمن في وجود سيدات تمكنّ من تغيير المشهدية الثقافية في ستينات وسبعينات القرن العشرين: هلن الخال التي أنشأت بعد عودتها من بنسلفاينا وزواجها من الشاعر يوسف الخال، أول غاليري احترافية في بيروت حملت اسم «غاليري وان» شكلت منصّة ثقافية فريدة جمعت بين الشعر والأدب، كما أنها كانت أول ناقدة فنية تنشر مقالاتها بالإنكليزية علاوة على الكتاب الذي وضعته عن الحركة الفنية النسائية في لبنان من مقاربة تشكيلية وسوسيولوجية، وكانت تربطها صداقة عميقة بالفنانة «هيكات كالان» وهي ابنة أول رئيس جمهورية، سُميّت بالسيدة المتمردة لأنها الأكثر تحرراً في الفن كما في الحياة، انتقدت البرجوازية وخالفت البرتوكولات الرسمية واعتنقت المبادىء التحررية في أسلوبها التجريدي ذي المنحى الإيروسي المبطن بالأشكال الزخرفية البراقة، في حين أن إيتل عدنان تفوّقت في مجالَي الشعر والفن باللغتين الفرنسية والإنكليزية، وكان يوسف الخال أول من ترجم لها كتاباً عبارة عن قصيدة طويلة بعنوان «خمس حواس لموت واحد» وقد أصدرها ضمن منشورات «غاليري وان» العام 1973، وكانت من أوائل الفنانات اللواتي استضافتهن جانين ربيز في دار الفن والأدب، تميز أسلوبها بالتجريد الهندسي المستوحى من تأملها جبل تملباييس وطبيعة كاليفورنيا، كما عُرفت أيضاً بدفاترها المطوية على الطريقة اليابانية المزينة برسوم وقصائد مقطوفة من دواوين شعراء الحداثة العرب. أما سلوى روضة شقير فهي من العلامات الفارقة في التجريد الهندسي في النحت الحديث. ومن فنانات العصر الذهبي للتحرر الفني، قدمت الغاليري سامية عسيران من خلال مناظر حلمية شفافة منفّذة بتقنية مرهفة تعود إلى حقبة الستينات، كما قدمت بعض أعمال سيمون فتّال، عبارة عن تكاوين نحتية تبدو كأنها آتية من أعماق جذور الإنسانية الغائصة في الأسطوري البدائي لعصر الحجارة. العصر الذهبي كان الحراك النسوي في تلك الحقبة من العصر الذهبي لبيروت، ليس شعاراً مباشراً كما هو الحال في المعاصرة وإنما اتخذ قضايا التحرر والمساواة بين الجنسين، ضمن بواعث ثقافية وفكرية وإيديولوجية شملت مختلف مستويات الأدب والشعر والفن والمسرح، كما أن الإنتاج النسوي في ذلك الحين لم يختلف بطروحاته الفنية عن النتاج الذكوري إن لم يكن نداً له. لم تكن النسوية متاعاً بائراً بل أرضاً خصبة للأفكار كما يتضح في نتاج فنانات الحداثة. في حين أن النسوية في المعاصرة هي الانحياز الكلي إلى كل ما هو مهمل من حقول الأنوثة الخبئية بجرأة غير معهودة. يتضح ذلك على نحو نموذجي في جدارية رانيا مطر المكوّنة من لقطات فوتوغرافية تتفحص من مقترب اجتماعي- سياسي تداعيات الانقسام الطائفي على حياة نماذج من المراهقات وأسرارهن، التي تنبعث من غرفهن المليئة بالصور والملابس وتفتح الخزائن المغلقة على الأشياء الحميمة. إنه عالم المراهقة من منظور «الوحدة» الذي تصوره أيضاً تانيا طرابلسي من مقترب الحياة اليومية. وينم تجهيز شيرين أبو شقرا عن احتفالية طقوسية ملغزة تتبدى في تيمة السفر بحثاً عن آفاق جديدة، هي الآفاق التي وجدتها سنتيا زافين حين استعادت شرائط فيديو منسية لعائلتها، وهي تبدو كشظايا من ذاكرة مفككة، وتمارا سامرائي في تجريدها اللوني المبعثر المعالم، وشفا غدّار في أقمشة الدانتيللا التي صنعت منها نسيج حكاياتها. وبكثير من الترميز والدلالات التي تشير إلى وقائع الفوضى السياسية في لبنان استخدمت ندى صحناوي أكداس الصحف في عمل تجهيزي ضخم يجسُم كمنحوتة ورقية مطلية بالأسود، كي تشير إلى تراكمات الغبن واللامساواة التي تعاني منها الفئات المهمشة من الشعب اللبناني. يدعونا المعرض كي نكون شهوداً على أحداث وتواريخ وصور هجينة من حياتنا اليومية من مقترب جميل ومشاكس ليس بالضرورة أن يتصف دوماً بالنعومة والهشاشة.