مع ترتيبات توضع كأساس في بناء النص يمكن التحرر التدريجي عما يثقل المعنى باتجاه اقتناص المُعَبر المُفيد إذ ذاك ينطق النص (بأجمل صور النطق) كما عبر رتشاردز عن ذلك. ولاشك أن الشاعر حين يتمكن من الإيغال في اللغة يتمكن من توظيف مزاجه وطاقته الذهنية وأحاسيه بالشكل الذي يطمئنه أنه في بداية صعوده التدريجي والمتماسك والمنظم لتحويل أشكاله الإنفعالية الى إنواع شتى من الصور الشعرية التي يمكن أن يقابل بها ذلك الحجم المركب من تراثه وينتصر عليه. وحتى الغموض في النص هو تجاوز بقدر ما للوضوح في الحياة بقول فرلين "يجتمع المحدد الواضح بالمبهم اللامحدود" لذا فإضاءة هذا الغموض مع الحفاظ على جوهره دون المساس بمحتوياته من الرموز والصور الباطنية لهُ صلة بين الظاهر والمستور وبين القصد والمصادفة مما يهيئ استجابة العاطفة بالقدر الذي يمكن الشاعر من معالجة هذا الخليط بشكل يؤمن إنسيابية المعنى نحو المغايرة بعيدا عن الآلي والمتدني من وهم الأفكار. إن المُخيلة وهي تبتدع أشياء فيها العبث والمتناقض وتعمل على تعرية البسيط تعني أن طاقتها في تفاعل مستمر نحو صيانة المعنى للوصول لمعنى المعنى، فاللغة الشعرية فيها من قوة التعبير ما يكفل للشاعر ما يريد من إيحاء للمعاني خاصة بعد وعيه لتجربته الشعرية وتأمين عواطفه، وكما يقول ووردزورث "التجربة الشعرية فيض تلقائي للعواطف القوية"، فالشاعر يعمل على بلبلة وتشويش الأشياء التي يراها ليديم تشويش حواسه كما تألف (أي حواسه) غير المألوف والمغاير لتطويع الوقائع بشكل آخر ضمن إمكانيات خلقه لكل ما هو مرئي وغير مرئي، أي تأسيس عوالمه ووضع اليد على خزينة من المكونات التي يقوم بها كل من الإنفعال والخيال بانسجام تام أو بمفارقة إنسجامية وتلك عملية طويلة لا تنتهي بانتهاء النص، وإنما تعيد نفسها في أي من مراحل الإنتاج مما يولد بين نص وآخر أشكالا من الصور الشعرية المتغايرة وغير المتجانسة، وهو ما يعطي لكل نص شعري هويته الخاصة به وفق هذا التنوع بالصور الممتلئة بالأفكار المتنوعة وقطعا سيثير ذلك المتلقي خارج قوانين الزمان والمكان كون المتلقي قد إمتلك من هذه النصوص المختلفة حرية أوسع في تشكيل رؤيته القرائية بأحاسيس منفصلة ومتباعدة ومتناقضة. إن الأشياء لدى الشاعر هي حلمٌ وخيال وأن العقل يغير رأيه باستمرار بقول بيركلي. ومادام كذلك فإن المخيلة في يقظة مستمرة لإستقبال شتى المحسوسات فتقوم المخيلة بعملها الشاق لإلتقاط ما ينسجم مع الإنفعال والخيال لوضع الألفاظ في موضعها الصحيح ويبدو النص بإشراقته النفسية الجديدة أي أن المعاني الحبيسة تتبلور بلحظات انبعاث تولدت من الظن والحدس والحلم ليبلغ المعنى إدراكه الفني والبديع.