«لكن حقيقة انتمائي بدأت تقلقني…هل أنا حقاً ضابط شرطة أم تاجر مخدرات» هكذا يقول يحيى المنقبادي (أحمد زكي) الشخصية المحورية في فيلم «أرض الخوف» (1999) لداوود عبد السيد. يقولها في لحظة شك عميق، في لحظة التباس تام في الهوية، وفي لحظة يمكن القول إنها تحمل تساؤلات وجودية وإيمانية عميقة. يأتينا الفيلم محملا بالرمز، ثرياً بالمعنى، فاتحاً الأبواب على مصراعيها للتفكر والتأمل. فيلم متطلب، يدعو مشاهده ألا يكتفي بالأحداث الظاهرية للفيلم، ينطلق منها إلى طبقات أعمق من التأويل والتفسير. القصة الظاهرية للفيلم تبدو للوهلة الأولى كفيلم بوليسي أو فيلم تشويق، تلك الأفلام التي يتسلل فيها ضابط في مهمة سرية لاختراق عالم الإجرام ومعرفة أسراره، حيث ينخرط وسط العالم السفلي للجريمة حتى يوقع بالمجرمين ويسلمهم للعدالة. ولكن «أرض الخوف» يأتينا مفعماً بعالم سحري رمزي، عالم ينسجه عبد السيد في ترو، وفي رؤية متعمقة لقصة الخلق كما روتها الكتب السماوية، ويطرح تساؤلات عن الخالق وعلاقته بالمخلوق، وعن الإله ونأيه وتخليه عن المخلوق، وعما يمكن أن نسميه توريط الإله للإنسان في حمل عبء لا قبل له به ثم التخلي عنه، وعن نوازع الخير والشر التي تعتمل في النفس البشرية. تبدأ أحداث الفيلم والمنقبادي كآدم لحظة الخلق، كآدم قبل الخطيئة وكشف العورة، فالمنقبادي ذو سجل شرطي ناصع، لا تشوبه شائبة ولم يصبه زلل. ينعم المنقباوي في مستهل الفيلم برضا رؤسائه، ويبدو كما لو كان ملائكيا لا يمسسه الدنس، فهو لم يرتش قط ولم يجد الراشون والملتوون سبيلا للنفاذ إليه. هذا النقاء يحدو برؤسائه في وزارة الداخلية أن يعهدوا إليه بمهمة سرية شاقة عسيرة تستمر طوال العمر، مهمة مفادها إلحاق الأدران والأوساخ والخطايا بنفسه ظاهريا للتسلل إلى العالم السفلي للمجرمين وكبار تجار المخدرات، حتى يقص على الرؤساء نبأهم ويدرأ عن العالم شرورهم. الأمر أشبه هنا بالقصص القرآني لعرض الخالق الأمانة على آدم. ولكن عرض هذا الحمل الثقيل على المنقبادي يأتي بدون أي ضمانات من الرؤساء، فهو رغم تسلله لعالم الإجرام والتشبه الكلي به، عليه أن يبقى نظيف الضمير، وعليه أن يبقى قلبه بلا زلل، وإذا فتك الشر به، فلن يحرك الرؤساء ساكنا لإنقاذه، فهو في مهمة سرية، ستنكر السلطات العلم بها إذا جد الجد. إذن، يسقط المنقبادي إلى عالم الشر في مهمة تحمل الاسم السري «أرض الخوف»، ولا ضامن له سوى رسالة ممهورة بتوقيع رؤساء العمل يودعها خزانة سرية. وتأتي موافقة المنقبادي على الهبوط إلى أرض الخوف، مصحوبة بقبول دعوة رئيسه في وزارة الداخلية لتناول تفاحة في رمز إلى تفاحة المعرفة وإلى تفاحة الخطيئة. ولكن كيف يمكن لمن غُرس وسط الدنس بأمر فوقي أن يبقى طاهرا معصوما من الدنس؟ كيف يكافح الإنسان شرور نفسه وشرور العالم وهو قد وضعت فيه اليد العليا الشرور وألهمته الفجور والتقوى؟ كيف لا يزل من وُضع في سبيل الزلل؟ وكيف يبقى على إيمانه من نأت عنه الآلهة وبقيت صامتة في عليائها حتى أنه بدأت تساوره الشكوك في وجودها؟ هذا هو حال يحيى المنقبادي الذي استحال في صورته السفلية إلى يحيى أبو دبورة زعيم عالم الجريمة والمخدرات، الذي قتل وسفك الدماء، ولكن كان عليه أن يبقى طاهر القلب. تناقضات مصير الإنسان وتساؤلات يطرحها داوود عبد السيد عما إذا كان الإنسان مسيرا أم مخيرا، وعن احتجاب الإله وصمته، وعما يمكن القول إنه توريط الإله للإنسان في حياة مليئة بالشرور والمغريات، ثم حسابه على ما غرسته الآلهة في نفسه من نوازع. نرقب حياة أبو دبورة وقد تراكمت على صفحتها الخطايا ولوثتها كل صنوف الدنس، ونلاحظ أن الخطيئة بدأت تحلو له وأنه بدأ يتلذذ بفعل القتل والانتقام وسفك الدماء. لم تعد الخطيئة فعلا مظهريا، ولكنها بدأت تتسلل لروحه وأعماقه. ومع ازدياد الدنس ومع الصمت من الرؤساء، يلوذ أبو دبورة بالوثيقة الممهورة بخاتم رؤسائه. الأمر أشبه بتشبث الإنسان بوعد الجنة، وأشبه بالرؤية للإنسان على أنه خطاء، ولكن خير الخطائين التوابون المتشبثون بوعد الرحمة والفردوس. أداء تمثيلي بارع من أحمد زكي، الذي تأتي كل اختلاجة وجه وكل تعبير وكل حركة لتدلل على مدى ألمه وحيرته وتورطه. موسيقى تحفل بالأجواء الغامضة والروحانية وضعها راجح داوود للفيلم تسهم بشكل كبير في خلق الأجواء الرمزية للفيلم.