أمين البحوث الإسلامية يلتقي نائب محافظ المنوفية لبحث تعزيز التعاون الدعوي والمجتمعي    الحالة «ج» للتأمين توفيق: تواجد ميدانى للقيادات ومتابعة تنفيذ الخطط الأمنية    تراجع سعر الدولار الأمريكي أمام الجنيه ختام تعاملات اليوم 30 ديسمبر 2025    مصر تثمن التعامل البناء من السعودية والامارات حول تطورات الأوضاع في اليمن    اكتمال عقد المنتخبات المتأهلة لدور ال16 بأمم أفريقيا 2025    النصر يتأخر أمام الاتفاق في الشوط الأول    أمم أفريقيا 2025| انطلاق مباراة الكونغو الديمقراطية وبوتسوانا    بالصوت والصورة.. حكايات مؤلمة من داخل مراكز علاج الإدمان غير المرخصة    ملامح الثورة الصحية فى 2026    استقرار سعر الريال السعودي في ختام تعاملات اليوم 30 ديسمبر 2025    زيلينسكي: اجتماع أمني حاسم في كييف لتحالف الداعمين مطلع يناير    غزة.. إصابة نازحين جراء انهيار جدار متصدع من قصف إسرائيلي سابق    الداخلية تنفي صحة فيديو إطلاق أعيرة نارية بقنا    أحمد العوضي يثير الجدل من جديد.. ما القصة؟    هل تبطل الصلاة بسبب خطأ فى تشكيل القرآن؟ الشيخ عويضة عثمان يجيب    هل يجب خلع الساعة والخاتم أثناء الوضوء؟.. أمين الفتوى يجيب    وزارة «العمل» تصدر قواعد وإجراءات تفتيش أماكن العمل ليلًا    وزير الثقافة يتابع تنفيذ توصيات لجنة الدراما بشأن أعمال موسم رمضان 2026    طلاب جامعة العاصمة يشاركون في قمة المرأة المصرية لتعزيز STEM والابتكار وريادة الأعمال    الخزانة الأمريكية ترفع العقوبات عن ألكسندرا بوريكو المرتبطة بروسيا    الطيران الحربي السوداني ينفذ ضربات على الدعم السريع تمهيدا لعمليات برية واسعة ( خاص )    خالد الجندى: القبر محطة من محطات ما بعد الحياة الدنيا    محافظ البحيرة ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية الطب البيطري و    خالد الجندي: القبر مرحلة في الطريق لا نهاية الرحلة    نهاية تاجر السموم بقليوب.. المؤبد وغرامة وحيازة سلاح أبيض    21 يناير.. افتتاح الدورة ال16 لمهرجان المسرح العربي    تنظيم القاعدة يبحث في حضرموت عن ثغرة للعودة    كنوز مدفونة بغرب الدلتا تكشف أسرار الصناعة والحياة اليومية عبر العصور    كشف ملابسات مشاجرة بالجيزة وضبط طرفيها    بث مباشر مباراة الأهلي والمقاولون العرب في كأس عاصمة مصر    السيطرة على انفجار خط المياه بطريق النصر بمدينة الشهداء فى المنوفية    خبر في الجول - ناصر ماهر ضمن أولويات بيراميدز لتدعيم صفوفه في يناير    حبس رمضان صبحي سنة مع الشغل    رئيس جامعة قناة السويس يهنئ السيسي بالعام الميلادي الجديد    الأمانة العامة لمجلس النواب تبدأ في استقبال النواب الجدد اعتبارا من 4 يناير    رئيس جامعة العريش يتابع سير امتحانات الفصل الدراسي الأول بمختلف الكليات    مهرجان المنصورة الدولي لسينما الأطفال يكشف عن بوستر دورته الأولى    مواجهات قوية في قرعة دوري أبطال آسيا 2    ضبط قضايا اتجار غير مشروع بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة قيمتها 7 ملايين جنيه    الصحة: تقديم 22.8 مليون خدمة طبية بالشرقية وإقامة وتطوير المنشآت بأكثر من ملياري جنيه خلال 2025    الزراعة: تحصين 1.35 مليون طائر خلال نوفمبر.. ورفع جاهزية القطعان مع بداية الشتاء    وكيل صحة سوهاج يلتقى أطباء قسم العظام بمستشفى طهطا لبحث تطوير الخدمات    السلطات السورية تفرض حظر تجول ليلي في مدينة اللاذقية    إجراءات ضد أصحاب 19 مخبزافى السنطة بالغربية    إصابة شخصين فى حادث تصادم سيارتين بقنا    وزارة العدل تقرر نقل مقرات 7 لجان لتوفيق المنازعات في 6 محافظات    معهد الأورام يستقبل وفدا من هيئة الهلال الأحمر الإماراتي لدعم المرضى    طاقم تحكيم مصري يدير مباراة السودان وبوركينا فاسو في كأس الأمم الإفريقية    محافظ المنوفية يضع حجر الأساس لإنشاء دار المناسبات الجديدة بحي شرق شبين الكوم    معبد الكرنك يشهد أولى الجولات الميدانية لملتقى ثقافة وفنون الفتاة والمرأة    تراجع معظم مؤشرات البورصة بمستهل تعاملات الثلاثاء    بنك مصر يخفض أسعار الفائدة على عدد من شهاداته الادخارية    جهاز القاهرة الجديدة: كسر بخط مياه فى شارع التسعين وجارى إصلاحه    رئيس جامعة الجيزة الجديدة: تكلفة مستشفى الجامعة تقدر بنحو 414 مليون دولار    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30-12-2025 في محافظة الأقصر    اليوم.. طقس شديد البرودة ليلا وشبورة كثيفة نهارا والعظمي بالقاهرة 20 درجة    الشرطة الأسترالية: منفذا هجوم بوندي عملا بمفردهما    إصابة منصور هندى عضو نقابة المهن الموسيقية فى حادث تصادم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جمال القصاص يراوغ خراب الذات متذكراً إليوت
نشر في نقطة ضوء يوم 07 - 10 - 2017

يرتبط ديوان «جدار أزرق» (بتَّانة) للشاعر مصري جمال القصاص، بالثقافة البصرية، على نحو يبدو فيه المكان ثابتاً، والزمن متغيراً، والإنسان مجرد كائن في عالم افتراضي. الجدار الأزرق هنا شاشة افتراضية، سطح للحرية، للإدراك والحس الفائق، وهو شاشة حقيقية أيضاً، تكتب عليها الذات الشاعرة حياتها وسيرتها، مدركة أن ما تكتبه، قد يرى، وقد لا يرى، لكن المهم بالنسبة إليها أن تكتب، حتى لو كان ما تكتبه هو لنفسها وعنها فقط.
هي إذن ومضات شعرية كتبها جمال القصاص على صفحته أو جداره الأزرق على «فايسبوك»، ثم ما لبثت أن تحولت إلى ديوان، ومن خلال نبضات فرعية صغيرة وانفجارات كبيرة تأكدت تلك العزلة الافتراضية والحقيقية التي يعيشها الإنسان الآن. حضرت الذات المتكلمة في القصائد، وتجلّت على أنحاء شتى: من خلال الحب، والموت، والزمن، وذلك الآخر الموجود في الديوان. كما تعدّدت الضمائر التي عبرت بها الذات عن نفسها، فكانت أحياناً في صيغة المتكلم، وأحياناً بضمير الغائب، أو عبر استحضار الحبيبة وجعلها تتكلم وتعبّر عمّا كانت الذات الأولى تريد أن تقوله، أو تود البوح به، أو التلميح إليه بالاتكاء على دوال القطة، السمكة، المدفأة، الرماد، وغيرها.
وفي الديوان روحٌ سوريالية وأخرى عبثية، وفكاهة وسخرية ومفارقات وثقافة محتشدة في كل صورة شعرية، مثلما يقول: «لم يعد لديَّ وقتٌ هنا/ أعرف وجهاً وحيداً لحياتي/ أعرف كيف يسكنني/ كيف أخرج منه».
وفي معظم القصائد، هناك هذا التعبير المفعم بالألم والشجن، بما أن كل شيء لم يعد كما ينبغي له أن يسير، مرَّ الوقتُ ولم يبق سوى القليل، بقايا أفراح وأحزان وأثر. مضت الحياة على وتيرة واحدة. كان لها وجهٌ واحد، عرفت الذات المتكلمة كيف سكنها، وكيف سيخرج منها، وما كان ذلك الوجه سوى وجه التكرار لكل شيء، على نحو طقسي، وكأن كل شيء يولد، ثم يموت ليولد من جديد. هو التكرار الذي قال عنه فرويد إنه السبب الرئيس الذي يجعل الإنسان يشعر بأنه تائه وغريب. التكرار المصاحب لظاهرة «سبق أن»، والذي نتوهّم من خلاله أن ما نمرّ به الآن، سبق أن مررنا به من قبل.
يقف دافع الموت وراء التكرار، والتكرار الكامل، يقول فرويد، يعني الموت، يعني شيئاً موجوداً وراء السرد، والحياة، والإبداع، لأنه تتم من خلاله إزالة المسافة بين النموذج الأصلي والصورة.
لكن التكرار قد يكون غاية في ذاته، محاولة لإرجاء الفقد، لإبعاد الموت، لكن محاولة إحياء ما قد مضى من خلال استعادته من جديد قد تنطوي أيضاً على نوع من الاستحضار للموتى، لإعادة بعث الأشباح، لتكرار ما يستحيل تكراره، من تجارب وحالات، لأنه لا يمكن أن يوجد مرة أخرى كما كان موجوداً من قبل.
ومن ثم، فإن الاستحضار قد يكون أحياناً مرعباً، لأن الموتى لا يحضرون أبداً، كما كانوا في الحياة إلا في الأحلام، أو في صورة شبحية، قد تتجلى في القصائد، أو على شاشات وحوائط الوعي والعزلة والإدراك، لكنه الحنين أبداً لا يريد أن يفارقنا، وجوهر الحنين التكرار: «ليس لديَّ وقتٌ هنا/ لا أشتهي رفوفاً أخرى تزاحمني فراغي/ عزلتي في داخلي/ دائماً لا أنسى أنني راحل/ أنني أديتُ مهمتي بسلامٍ/ تألمتُ لمساحات الخراب في الوجوه/ نخلتها في خطوتي الصغيرة/ كي أذهبَ أبعد من ظلي/ كي أصون هبائي» (ص 9).
تقع الذات المتكلمة في الديوان في براثن ذلك الشعور المهيمن بقرب الرحيل، بدنوّ الموت، بفقدان الرغبة في أي شيء، كما أنها تدرك أنها تعيش في قبضة عزلة لا ترحمها، وأنها قد أدّت مهمتها بسلام، لكنها تتألم أيضاً وتحزن، على رغم محاولتها التظاهر باللامبالاة، وذلك بسبب ما قد تشاهده كل يوم من مساحات الخراب في الوجوه، تحاول أن تبتعد عنها، وعن ذلك الخراب، أن تذهب إلى ما هو أبعد من ظلها، تحاول أن تصون العدم الذي تواجهه كل يوم، لكن ظلّها مصحوباً بالخراب والألم والعدم يظل يلاحقها كل يوم. ومع ذلك تظلّ الذات المتكلمة في الديوان تتحدث أيضاً عن أمنياتها التي كانت متكرّرة، بأن تسكن بيتاً ما، وأن تعشق امرأة ما، وأن تتسلّق صخرة ما، وأن تكتب نصّاً ما.
الجدار هو رمز للعقبة، للمرور من حيّز إلى آخر، ومن فضاء إلى فضاء، وهو كذلك رمز للانغلاق المقدس أو حتى المرضي المغلق على الذات. الحائط يقسم العالم إلى ذات وموضوع، ما هو داخلي وما هو خارجي، الحائط حاجز، لكنه أيضاً وسيلة للتواصل، للكتابة، للرسم، للحفر، للتعبير. الحائط كالمعنى القديم يمكن اختراقه أو هدمه. وبالمعنى الجديد يمكن التطفّل عليه أو قرصنته. الأول يُصنع من الطين أو الحجر أو الجرانيت، والثاني من نظام رقمي متكامل من الخلايا الإلكترونية والموصلات. في الحالتين؛ أنت في عزلة، هناك آخر موجود خلف الحائط أو وراء الشاشات.
هكذا تتوالى في القصائد، حالات الاستعادة والاجترار والتكرار والإثبات والنفي ومحاولة ترميم جروح الذات: «كنت صالحاً للحب/ أملك مشاعر تذهب/ في ما وراء الجدران». هنا تذكُرٌ للحياة على نحو لقطات سريعة، بوستات موجزة تحمله فوق الموقع الإلكتروني: «لِم في آخر الحقل/ صدمني التاريخُ بأقدامه الغليظة». تتقمّص الذات الشاعرة شخصيات اللصوص والشحاذين والدراويش وماسحي الأحذية وبائعات الفُل والفتوات والرسامين والمرضى العقليين والكتّاب والشعراء والفلاسفة، كل من يستطيع القيام بأفعال غريبة. وتستدعي الذات نفسها مقاطع من إليوت وأرضه الخراب؛ حيث (نيسان أقسى الشهور)، أما لدى جمال القصاص فإن آذار ليس أقسى الشهور، لكن في الحالتين هناك خرابٌ بلا وجيعة. كان إليوت يتحدّث عن خيبة جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويتحدّث القصاص عن خيبة جيل السبعينات ما بعد هزيمة 1967 وما طرأ على مصر والمنطقة العربية من خراب وخيبات. هنا أرض خرابٍ آخر. هنا أرض الوحشة والعزلة وانهيار الأحلام، حيث الذات من خلال الابتعاد تحاول أن تبحث عن معنى أو يقين للتجارب والذكريات وتأمّل الروح والجسد والعلاقات، فلا يواجهها سوى العدم والخراب والتكرار، يقول: «أمس/ أنا جمال القصاص/ واليوم/ أنا جمال القصاص/ وغداً أنا جمال القصاص/ وحين أموت أيضاً/ أنا جمال القصاص/ يا لبؤس رجل بأربعة أقنعة/ لا يعرف كيف يشفى بها من اسمه». ويقول كذلك: «مازلتُ أكمل معجزتي الصغيرة/ أذهب إلى العمل وأكتب الشعر/ أصنع طعامي بأشياء بسيطة للغاية/ لا أكفّ عن التفكير في أصدقائي/ أخشى من لوثة السقوط الأخير/ في حفرة النور».
وتتحدّث الذات عن إجادتها رفو جواربها، عن غسلها الأطباق أولاً بأول، وترتيبها ملابسها، وطرائقها المتعددة في صنع القهوة، وعن احترامها يد الخباز، ومكنسة عامل النظافة، وشعورها بأنها تنتمي إلى شيء ما: «ينبغي أن نكون أحراراً/ نحن أشباهُ حقائق/ كذبةٌ غير قابلة للنسيان/ نعيش كأموات مهذّبين/ نعرف كيف نخفي القاتل/ في طيّات الملابس/ في شرائط منع الحمل/ في أقراص السكّري/ وصناديق القمامة».
فهكذا، ينتهي الأمر دائماً بفقدان الشغف، فلم يعد الشاعر مشغوفاً بتحية فتاة المتجر، باصطياد «وجهه من غبار الأرصفة»، لكنه يظل، على رغم ذلك، يحنّ إلى آخرٍ ما، إلى حفلة يوجد فيها معه، إلى نظرة، إلى شيء ما، يخرجه من حياة لا تختلف عن الموت، ومِن هذا التكرار الأليم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.