رفع أسعار كروت شحن المحمول| شعبة الاتصالات تكشف "حقيقة أم شائعة"    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. السبت 15 نوفمبر 2025    84 دولار مكاسب الأوقية ببورصة الذهب العالمية خلال أسبوع    تيسيرات كبيرة لتوصيل الغاز الطبيعي للمنازل بمحافظة الغربية ضمن مبادرة حياة كريمة    مواجهات مرتقبة ضمن التصفيات الأوروبية المؤهلة لكأس العالم 2026    ضبط المتهم بصفع مهندس بالمعاش والتسبب في مصرعه بالهرم    مصطفى كامل يطمئن جمهور أحمد سعد بعد تعرضه لحادث    حورية فرغلي تشعل السوشيال ميديا وتكسر تريند جوجل بعد شائعة زواجها... والفنانة تحسم الجدل ببيان رسمي    الاتجار في أدوية التأمين الصحي «جريمة»    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    حكم شراء سيارة بالتقسيط.. الإفتاء تُجيب    اليابان تدرس حزمة تحفيز اقتصادية بقيمة 17 تريليون ين بقيادة ساناي تاكايتشي    ترامب: أشعر بالحزن لرؤية ما حدث في أوروبا بسبب الهجرة    فلسطين.. جيش الاحتلال يعتقل 3 فلسطينيين من مخيم عسكر القديم    ترامب: سنجري اختبارات على أسلحة نووية مثل دول أخرى    العنف المدرسى    انفراد ل«آخرساعة» من قلب وادي السيليكون بأمريكا.. قناع ذكي يتحكم في أحلامك!    مناقشة رسالة دكتوراه بجامعة حلوان حول دور الرياضة في تعزيز الأمن القومي المصري    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    المنتخب الكرواتي يتأهل إلى كأس العالم 2026    مقتل 7 أشخاص وإصابة 27 إثر انفجار مركز شرطة جامو وكشمير    عضو جمهوري: الإغلاق الحكومي يُعد الأطول في تاريخ الولايات المتحدة    قتلى ومصابون باقتحام حافلة لمحطة ركاب في إستكهولم بالسويد (فيديو)    تفاصيل مشروعات السكنية والخدمية بحدائق أكتوبر    أموال المصريين غنيمة للعسكر .. غرق مطروح بالأمطار الموسمية يفضح إهدار 2.4 مليار جنيه في كورنيش 2 كم!    7 قتلى و27 مصابا في انفجار بمركز شرطة بالهند    ترامب يعلن نيته اتخاذ إجراء قضائي ضد "بي بي سي" ويعلق على الرسوم الجمركية    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    مناوشات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    طقس غير مستقر وشبورة كثيفة.. الأرصاد تكشف توقعات السبت 15 نوفمبر 2025    جوائز برنامج دولة التلاوة.. 3.5 مليون جنيه الإجمالي (إنفوجراف)    "رقم واحد يا أنصاص" تضع محمد رمضان في ورطة.. تفاصيل    مستشار الرئيس الفلسطيني: الطريق نحو السلام الحقيقي يمر عبر إقامة الدولة الفلسطينية    باحث في شؤون الأسرة يكشف مخاطر الصداقات غير المنضبطة بين الولد والبنت    عمرو عرفة يحتفل بزفاف ابنته بحضور ليلى علوي ومحمد ورامي إمام وحفيد الزعيم    إبراهيم صلاح ل في الجول: أفضل اللعب أمام الأهلي عن الزمالك.. ونريد الوصول بعيدا في كأس مصر    سيارة طائشة تدهس 3 طلاب أعلى طريق المقطم    فرنسا: 5 منصات تجارية تبيع منتجات غير مشروعة    عصام صفي الدين: السلوكيات السلبية بالمتاحف نتاج عقود من غياب التربية المتحفية    شتيجن يطرق باب الرحيل.. ضغوط ألمانية تدفع حارس برشلونة نحو الرحيل في يناير    صدمة في ريال مدريد.. فلورنتينو بيريز يتجه للتنحي    إلى موقعة الحسم.. ألمانيا تهزم لوكسمبورج قبل مواجهة سلوفاكيا على بطاقة التأهل    اليوم.. أولى جلسات استئناف المتهمين في حادث الطريق الإقليمي بالمنوفية    حسام حسن: هناك بعض الإيجابيات من الهزيمة أمام أوزبكستان    زعيم الثغر يحسم تأهله لنهائي دوري المرتبط لكرة السلة    إخماد حريق في مخبز وسوبر ماركت بالسويس    بيان من مستشفى الحسينية المركزي بالشرقية للرد على مزاعم حالات الوفيات الجماعية    رئيس الطب الوقائى: نوفر جميع التطعيمات حتى للاجئين فى منافذ الدخول لمصر    آخر تطورات الحالة الصحية لطبيب قنا المصاب بطلق ناري طائش    الباز: العزوف تحت شعار "القايمة واحدة" عوار يتحمله الجميع    تربية عين شمس تحتفي بالطلاب الوافدين    «الصحة» تنظم جلسة حول تمكين الشباب في صحة المجتمع    انطلاق برنامج دولة التلاوة عبر الفضائيات بالتعاون بين الأوقاف والمتحدة في تمام التاسعة    تكافؤ الفرص بالشرقية تنفذ 9 ندوات توعوية لمناهضة العنف ضد المرأة    الائتلاف المصري لحقوق الإنسان: صعود المستقلين وتراجع المرأة في المرحلة الأولى لانتخابات النواب    مؤتمر السكان والتنمية.. «الصحة» تناقش النظام الغذائي ونمط الحياة الصحي    صندوق "قادرون باختلاف" يشارك في مؤتمر السياحة الميسرة للأشخاص ذوي الإعاقة    سنن الاستماع لخطبة الجمعة وآداب المسجد – دليلك للخشوع والفائدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جمال القصاص يراوغ خراب الذات متذكراً إليوت
نشر في صوت البلد يوم 07 - 10 - 2017

يرتبط ديوان «جدار أزرق» (بتَّانة) للشاعر مصري جمال القصاص، بالثقافة البصرية، على نحو يبدو فيه المكان ثابتاً، والزمن متغيراً، والإنسان مجرد كائن في عالم افتراضي. الجدار الأزرق هنا شاشة افتراضية، سطح للحرية، للإدراك والحس الفائق، وهو شاشة حقيقية أيضاً، تكتب عليها الذات الشاعرة حياتها وسيرتها، مدركة أن ما تكتبه، قد يرى، وقد لا يرى، لكن المهم بالنسبة إليها أن تكتب، حتى لو كان ما تكتبه هو لنفسها وعنها فقط.
هي إذن ومضات شعرية كتبها جمال القصاص على صفحته أو جداره الأزرق على «فايسبوك»، ثم ما لبثت أن تحولت إلى ديوان، ومن خلال نبضات فرعية صغيرة وانفجارات كبيرة تأكدت تلك العزلة الافتراضية والحقيقية التي يعيشها الإنسان الآن. حضرت الذات المتكلمة في القصائد، وتجلّت على أنحاء شتى: من خلال الحب، والموت، والزمن، وذلك الآخر الموجود في الديوان. كما تعدّدت الضمائر التي عبرت بها الذات عن نفسها، فكانت أحياناً في صيغة المتكلم، وأحياناً بضمير الغائب، أو عبر استحضار الحبيبة وجعلها تتكلم وتعبّر عمّا كانت الذات الأولى تريد أن تقوله، أو تود البوح به، أو التلميح إليه بالاتكاء على دوال القطة، السمكة، المدفأة، الرماد، وغيرها.
وفي الديوان روحٌ سوريالية وأخرى عبثية، وفكاهة وسخرية ومفارقات وثقافة محتشدة في كل صورة شعرية، مثلما يقول: «لم يعد لديَّ وقتٌ هنا/ أعرف وجهاً وحيداً لحياتي/ أعرف كيف يسكنني/ كيف أخرج منه».
وفي معظم القصائد، هناك هذا التعبير المفعم بالألم والشجن، بما أن كل شيء لم يعد كما ينبغي له أن يسير، مرَّ الوقتُ ولم يبق سوى القليل، بقايا أفراح وأحزان وأثر. مضت الحياة على وتيرة واحدة. كان لها وجهٌ واحد، عرفت الذات المتكلمة كيف سكنها، وكيف سيخرج منها، وما كان ذلك الوجه سوى وجه التكرار لكل شيء، على نحو طقسي، وكأن كل شيء يولد، ثم يموت ليولد من جديد. هو التكرار الذي قال عنه فرويد إنه السبب الرئيس الذي يجعل الإنسان يشعر بأنه تائه وغريب. التكرار المصاحب لظاهرة «سبق أن»، والذي نتوهّم من خلاله أن ما نمرّ به الآن، سبق أن مررنا به من قبل.
يقف دافع الموت وراء التكرار، والتكرار الكامل، يقول فرويد، يعني الموت، يعني شيئاً موجوداً وراء السرد، والحياة، والإبداع، لأنه تتم من خلاله إزالة المسافة بين النموذج الأصلي والصورة.
لكن التكرار قد يكون غاية في ذاته، محاولة لإرجاء الفقد، لإبعاد الموت، لكن محاولة إحياء ما قد مضى من خلال استعادته من جديد قد تنطوي أيضاً على نوع من الاستحضار للموتى، لإعادة بعث الأشباح، لتكرار ما يستحيل تكراره، من تجارب وحالات، لأنه لا يمكن أن يوجد مرة أخرى كما كان موجوداً من قبل.
ومن ثم، فإن الاستحضار قد يكون أحياناً مرعباً، لأن الموتى لا يحضرون أبداً، كما كانوا في الحياة إلا في الأحلام، أو في صورة شبحية، قد تتجلى في القصائد، أو على شاشات وحوائط الوعي والعزلة والإدراك، لكنه الحنين أبداً لا يريد أن يفارقنا، وجوهر الحنين التكرار: «ليس لديَّ وقتٌ هنا/ لا أشتهي رفوفاً أخرى تزاحمني فراغي/ عزلتي في داخلي/ دائماً لا أنسى أنني راحل/ أنني أديتُ مهمتي بسلامٍ/ تألمتُ لمساحات الخراب في الوجوه/ نخلتها في خطوتي الصغيرة/ كي أذهبَ أبعد من ظلي/ كي أصون هبائي» (ص 9).
تقع الذات المتكلمة في الديوان في براثن ذلك الشعور المهيمن بقرب الرحيل، بدنوّ الموت، بفقدان الرغبة في أي شيء، كما أنها تدرك أنها تعيش في قبضة عزلة لا ترحمها، وأنها قد أدّت مهمتها بسلام، لكنها تتألم أيضاً وتحزن، على رغم محاولتها التظاهر باللامبالاة، وذلك بسبب ما قد تشاهده كل يوم من مساحات الخراب في الوجوه، تحاول أن تبتعد عنها، وعن ذلك الخراب، أن تذهب إلى ما هو أبعد من ظلها، تحاول أن تصون العدم الذي تواجهه كل يوم، لكن ظلّها مصحوباً بالخراب والألم والعدم يظل يلاحقها كل يوم. ومع ذلك تظلّ الذات المتكلمة في الديوان تتحدث أيضاً عن أمنياتها التي كانت متكرّرة، بأن تسكن بيتاً ما، وأن تعشق امرأة ما، وأن تتسلّق صخرة ما، وأن تكتب نصّاً ما.
الجدار هو رمز للعقبة، للمرور من حيّز إلى آخر، ومن فضاء إلى فضاء، وهو كذلك رمز للانغلاق المقدس أو حتى المرضي المغلق على الذات. الحائط يقسم العالم إلى ذات وموضوع، ما هو داخلي وما هو خارجي، الحائط حاجز، لكنه أيضاً وسيلة للتواصل، للكتابة، للرسم، للحفر، للتعبير. الحائط كالمعنى القديم يمكن اختراقه أو هدمه. وبالمعنى الجديد يمكن التطفّل عليه أو قرصنته. الأول يُصنع من الطين أو الحجر أو الجرانيت، والثاني من نظام رقمي متكامل من الخلايا الإلكترونية والموصلات. في الحالتين؛ أنت في عزلة، هناك آخر موجود خلف الحائط أو وراء الشاشات.
هكذا تتوالى في القصائد، حالات الاستعادة والاجترار والتكرار والإثبات والنفي ومحاولة ترميم جروح الذات: «كنت صالحاً للحب/ أملك مشاعر تذهب/ في ما وراء الجدران». هنا تذكُرٌ للحياة على نحو لقطات سريعة، بوستات موجزة تحمله فوق الموقع الإلكتروني: «لِم في آخر الحقل/ صدمني التاريخُ بأقدامه الغليظة». تتقمّص الذات الشاعرة شخصيات اللصوص والشحاذين والدراويش وماسحي الأحذية وبائعات الفُل والفتوات والرسامين والمرضى العقليين والكتّاب والشعراء والفلاسفة، كل من يستطيع القيام بأفعال غريبة. وتستدعي الذات نفسها مقاطع من إليوت وأرضه الخراب؛ حيث (نيسان أقسى الشهور)، أما لدى جمال القصاص فإن آذار ليس أقسى الشهور، لكن في الحالتين هناك خرابٌ بلا وجيعة. كان إليوت يتحدّث عن خيبة جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويتحدّث القصاص عن خيبة جيل السبعينات ما بعد هزيمة 1967 وما طرأ على مصر والمنطقة العربية من خراب وخيبات. هنا أرض خرابٍ آخر. هنا أرض الوحشة والعزلة وانهيار الأحلام، حيث الذات من خلال الابتعاد تحاول أن تبحث عن معنى أو يقين للتجارب والذكريات وتأمّل الروح والجسد والعلاقات، فلا يواجهها سوى العدم والخراب والتكرار، يقول: «أمس/ أنا جمال القصاص/ واليوم/ أنا جمال القصاص/ وغداً أنا جمال القصاص/ وحين أموت أيضاً/ أنا جمال القصاص/ يا لبؤس رجل بأربعة أقنعة/ لا يعرف كيف يشفى بها من اسمه». ويقول كذلك: «مازلتُ أكمل معجزتي الصغيرة/ أذهب إلى العمل وأكتب الشعر/ أصنع طعامي بأشياء بسيطة للغاية/ لا أكفّ عن التفكير في أصدقائي/ أخشى من لوثة السقوط الأخير/ في حفرة النور».
وتتحدّث الذات عن إجادتها رفو جواربها، عن غسلها الأطباق أولاً بأول، وترتيبها ملابسها، وطرائقها المتعددة في صنع القهوة، وعن احترامها يد الخباز، ومكنسة عامل النظافة، وشعورها بأنها تنتمي إلى شيء ما: «ينبغي أن نكون أحراراً/ نحن أشباهُ حقائق/ كذبةٌ غير قابلة للنسيان/ نعيش كأموات مهذّبين/ نعرف كيف نخفي القاتل/ في طيّات الملابس/ في شرائط منع الحمل/ في أقراص السكّري/ وصناديق القمامة».
فهكذا، ينتهي الأمر دائماً بفقدان الشغف، فلم يعد الشاعر مشغوفاً بتحية فتاة المتجر، باصطياد «وجهه من غبار الأرصفة»، لكنه يظل، على رغم ذلك، يحنّ إلى آخرٍ ما، إلى حفلة يوجد فيها معه، إلى نظرة، إلى شيء ما، يخرجه من حياة لا تختلف عن الموت، ومِن هذا التكرار الأليم.
يرتبط ديوان «جدار أزرق» (بتَّانة) للشاعر مصري جمال القصاص، بالثقافة البصرية، على نحو يبدو فيه المكان ثابتاً، والزمن متغيراً، والإنسان مجرد كائن في عالم افتراضي. الجدار الأزرق هنا شاشة افتراضية، سطح للحرية، للإدراك والحس الفائق، وهو شاشة حقيقية أيضاً، تكتب عليها الذات الشاعرة حياتها وسيرتها، مدركة أن ما تكتبه، قد يرى، وقد لا يرى، لكن المهم بالنسبة إليها أن تكتب، حتى لو كان ما تكتبه هو لنفسها وعنها فقط.
هي إذن ومضات شعرية كتبها جمال القصاص على صفحته أو جداره الأزرق على «فايسبوك»، ثم ما لبثت أن تحولت إلى ديوان، ومن خلال نبضات فرعية صغيرة وانفجارات كبيرة تأكدت تلك العزلة الافتراضية والحقيقية التي يعيشها الإنسان الآن. حضرت الذات المتكلمة في القصائد، وتجلّت على أنحاء شتى: من خلال الحب، والموت، والزمن، وذلك الآخر الموجود في الديوان. كما تعدّدت الضمائر التي عبرت بها الذات عن نفسها، فكانت أحياناً في صيغة المتكلم، وأحياناً بضمير الغائب، أو عبر استحضار الحبيبة وجعلها تتكلم وتعبّر عمّا كانت الذات الأولى تريد أن تقوله، أو تود البوح به، أو التلميح إليه بالاتكاء على دوال القطة، السمكة، المدفأة، الرماد، وغيرها.
وفي الديوان روحٌ سوريالية وأخرى عبثية، وفكاهة وسخرية ومفارقات وثقافة محتشدة في كل صورة شعرية، مثلما يقول: «لم يعد لديَّ وقتٌ هنا/ أعرف وجهاً وحيداً لحياتي/ أعرف كيف يسكنني/ كيف أخرج منه».
وفي معظم القصائد، هناك هذا التعبير المفعم بالألم والشجن، بما أن كل شيء لم يعد كما ينبغي له أن يسير، مرَّ الوقتُ ولم يبق سوى القليل، بقايا أفراح وأحزان وأثر. مضت الحياة على وتيرة واحدة. كان لها وجهٌ واحد، عرفت الذات المتكلمة كيف سكنها، وكيف سيخرج منها، وما كان ذلك الوجه سوى وجه التكرار لكل شيء، على نحو طقسي، وكأن كل شيء يولد، ثم يموت ليولد من جديد. هو التكرار الذي قال عنه فرويد إنه السبب الرئيس الذي يجعل الإنسان يشعر بأنه تائه وغريب. التكرار المصاحب لظاهرة «سبق أن»، والذي نتوهّم من خلاله أن ما نمرّ به الآن، سبق أن مررنا به من قبل.
يقف دافع الموت وراء التكرار، والتكرار الكامل، يقول فرويد، يعني الموت، يعني شيئاً موجوداً وراء السرد، والحياة، والإبداع، لأنه تتم من خلاله إزالة المسافة بين النموذج الأصلي والصورة.
لكن التكرار قد يكون غاية في ذاته، محاولة لإرجاء الفقد، لإبعاد الموت، لكن محاولة إحياء ما قد مضى من خلال استعادته من جديد قد تنطوي أيضاً على نوع من الاستحضار للموتى، لإعادة بعث الأشباح، لتكرار ما يستحيل تكراره، من تجارب وحالات، لأنه لا يمكن أن يوجد مرة أخرى كما كان موجوداً من قبل.
ومن ثم، فإن الاستحضار قد يكون أحياناً مرعباً، لأن الموتى لا يحضرون أبداً، كما كانوا في الحياة إلا في الأحلام، أو في صورة شبحية، قد تتجلى في القصائد، أو على شاشات وحوائط الوعي والعزلة والإدراك، لكنه الحنين أبداً لا يريد أن يفارقنا، وجوهر الحنين التكرار: «ليس لديَّ وقتٌ هنا/ لا أشتهي رفوفاً أخرى تزاحمني فراغي/ عزلتي في داخلي/ دائماً لا أنسى أنني راحل/ أنني أديتُ مهمتي بسلامٍ/ تألمتُ لمساحات الخراب في الوجوه/ نخلتها في خطوتي الصغيرة/ كي أذهبَ أبعد من ظلي/ كي أصون هبائي» (ص 9).
تقع الذات المتكلمة في الديوان في براثن ذلك الشعور المهيمن بقرب الرحيل، بدنوّ الموت، بفقدان الرغبة في أي شيء، كما أنها تدرك أنها تعيش في قبضة عزلة لا ترحمها، وأنها قد أدّت مهمتها بسلام، لكنها تتألم أيضاً وتحزن، على رغم محاولتها التظاهر باللامبالاة، وذلك بسبب ما قد تشاهده كل يوم من مساحات الخراب في الوجوه، تحاول أن تبتعد عنها، وعن ذلك الخراب، أن تذهب إلى ما هو أبعد من ظلها، تحاول أن تصون العدم الذي تواجهه كل يوم، لكن ظلّها مصحوباً بالخراب والألم والعدم يظل يلاحقها كل يوم. ومع ذلك تظلّ الذات المتكلمة في الديوان تتحدث أيضاً عن أمنياتها التي كانت متكرّرة، بأن تسكن بيتاً ما، وأن تعشق امرأة ما، وأن تتسلّق صخرة ما، وأن تكتب نصّاً ما.
الجدار هو رمز للعقبة، للمرور من حيّز إلى آخر، ومن فضاء إلى فضاء، وهو كذلك رمز للانغلاق المقدس أو حتى المرضي المغلق على الذات. الحائط يقسم العالم إلى ذات وموضوع، ما هو داخلي وما هو خارجي، الحائط حاجز، لكنه أيضاً وسيلة للتواصل، للكتابة، للرسم، للحفر، للتعبير. الحائط كالمعنى القديم يمكن اختراقه أو هدمه. وبالمعنى الجديد يمكن التطفّل عليه أو قرصنته. الأول يُصنع من الطين أو الحجر أو الجرانيت، والثاني من نظام رقمي متكامل من الخلايا الإلكترونية والموصلات. في الحالتين؛ أنت في عزلة، هناك آخر موجود خلف الحائط أو وراء الشاشات.
هكذا تتوالى في القصائد، حالات الاستعادة والاجترار والتكرار والإثبات والنفي ومحاولة ترميم جروح الذات: «كنت صالحاً للحب/ أملك مشاعر تذهب/ في ما وراء الجدران». هنا تذكُرٌ للحياة على نحو لقطات سريعة، بوستات موجزة تحمله فوق الموقع الإلكتروني: «لِم في آخر الحقل/ صدمني التاريخُ بأقدامه الغليظة». تتقمّص الذات الشاعرة شخصيات اللصوص والشحاذين والدراويش وماسحي الأحذية وبائعات الفُل والفتوات والرسامين والمرضى العقليين والكتّاب والشعراء والفلاسفة، كل من يستطيع القيام بأفعال غريبة. وتستدعي الذات نفسها مقاطع من إليوت وأرضه الخراب؛ حيث (نيسان أقسى الشهور)، أما لدى جمال القصاص فإن آذار ليس أقسى الشهور، لكن في الحالتين هناك خرابٌ بلا وجيعة. كان إليوت يتحدّث عن خيبة جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويتحدّث القصاص عن خيبة جيل السبعينات ما بعد هزيمة 1967 وما طرأ على مصر والمنطقة العربية من خراب وخيبات. هنا أرض خرابٍ آخر. هنا أرض الوحشة والعزلة وانهيار الأحلام، حيث الذات من خلال الابتعاد تحاول أن تبحث عن معنى أو يقين للتجارب والذكريات وتأمّل الروح والجسد والعلاقات، فلا يواجهها سوى العدم والخراب والتكرار، يقول: «أمس/ أنا جمال القصاص/ واليوم/ أنا جمال القصاص/ وغداً أنا جمال القصاص/ وحين أموت أيضاً/ أنا جمال القصاص/ يا لبؤس رجل بأربعة أقنعة/ لا يعرف كيف يشفى بها من اسمه». ويقول كذلك: «مازلتُ أكمل معجزتي الصغيرة/ أذهب إلى العمل وأكتب الشعر/ أصنع طعامي بأشياء بسيطة للغاية/ لا أكفّ عن التفكير في أصدقائي/ أخشى من لوثة السقوط الأخير/ في حفرة النور».
وتتحدّث الذات عن إجادتها رفو جواربها، عن غسلها الأطباق أولاً بأول، وترتيبها ملابسها، وطرائقها المتعددة في صنع القهوة، وعن احترامها يد الخباز، ومكنسة عامل النظافة، وشعورها بأنها تنتمي إلى شيء ما: «ينبغي أن نكون أحراراً/ نحن أشباهُ حقائق/ كذبةٌ غير قابلة للنسيان/ نعيش كأموات مهذّبين/ نعرف كيف نخفي القاتل/ في طيّات الملابس/ في شرائط منع الحمل/ في أقراص السكّري/ وصناديق القمامة».
فهكذا، ينتهي الأمر دائماً بفقدان الشغف، فلم يعد الشاعر مشغوفاً بتحية فتاة المتجر، باصطياد «وجهه من غبار الأرصفة»، لكنه يظل، على رغم ذلك، يحنّ إلى آخرٍ ما، إلى حفلة يوجد فيها معه، إلى نظرة، إلى شيء ما، يخرجه من حياة لا تختلف عن الموت، ومِن هذا التكرار الأليم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.