خطوات البرلمان بعد اعتراض رئيس الجمهورية على مشروع قانون الإجراءات الجنائية.. عقد جلسة عاجلة ودعوة رئيس الوزراء.. وتشكيل لجنة خاصة لدراسة الاعتراضات    «المصري الديمقراطي» عن إعادة «الإجراءات الجنائية» للبرلمان: الرئيس انحاز للمعارضة بعد صدامات مع الأغلبية    سعر الجنيه الإسترليني في البنوك المصرية اليوم الأحد    محافظ الأقصر يبحث مع "الاستعلامات" دعم القضايا الوطنية والترويج السياحي    مقتل وإصابة 7 أشخاص في حادث إطلاق نار بأمريكا    بالأرقام، عثمان ديمبلي الأقرب لحصد الكرة الذهبية في حفل الغد    بمشاركة الأهلي والزمالك.. مواعيد مباريات الدور الأول من بطولة العالم لكرة اليد    رسميًا.. اللواء أشرف نصار رئيسًا لنادي البنك الأهلي والسرسي نائبًا    حادث تصادم سيارة الفنان محمود عامر دون إصابات في الشيخ زايد    روسيا: فشل محاولات تعطيل مسابقة «إنترفيجن» الموسيقية الدولية بالضغط على المشاركين    أبرزها «الجدي».. 4 أبراج تعشق فصل الخريف (تألق وإبداع مع بداية الموسم)    بالصور.. أحدث جلسة تصوير ل ياسمين صبري داخل الطائرة والجمهور يعلق    توافد نجوم الفن.. أحمد صيام يستقبل المعزين في وفاة شقيقته    هل كسوف الشمس وخسوف القمر غضب من الله؟.. عضو مركز الأزهر تُجيب    موعد صلاة العشاء ليوم الأحد .. ومن صالح الدعاء بعد ختم الصلاة    الصحة: القضاء على الدرن أولوية وطنية    عميد طب القاهرة: احتفالية مرور 200 عام على إنشاء قصر العيني فخر لكل مصري    لايلز يقود أمريكا للاحتفاظ بذهبية 100 متر تتابع بمونديال القوى    طلعت يوسف: زيزو لا يؤدي بروح مع الأهلي    135 مخالفة زيادة أجرة وخطوط سير خلال حملة بمواقف الفيوم "صور"    مأساة تحت سقف العلم.. قصة درس خصوصي انتهى بفضيحة حمل بالشرقية    تفاصيل انفجار خط غاز بحر مويس في بنها بسبب خطأ سائق حفار.. فيديو وصور    تنفيذ قرارات إغلاق لعدد من المحلات المخالفة جنوب الغردقة    تأجيل محاكمة 11 متهما بقضية "خلية حلوان" لجلسة 2 نوفمبر المقبل    مصرع 3 عناصر إجرامية في تبادل لإطلاق النار مع قوات الأمن بالبحيرة    خبير اقتصادي: «القنطرة غرب» نموذج لتحويل التحديات إلى منطقة صناعية ولوجستية واعدة    840 فرصة عمل جديدة وتدريب مهني لتمكين الشباب بكفر الشيخ    القوات المسلحة تنظم زيارتين لأساتذة وطلبة جامعتي المنصورة وبني سويف إلى الأكاديمية العسكرية    العراق يشغل أول محطة لإنتاج الكهرباء بالطاقة الشمسية جنوبي بغداد    شريهان أشرف تقدّم خطوات مكياج دافئ وهادئ لخريف 2025 في «ست ستات» على DMC    في واقعة الإسورة الأثرية.. النيابة توصي بمنع دخول حقائب مرممي الآثار وتفتيشهم عند الخروج وتركيب كاميرات مراقبة    وزير الزراعة والري السوداني: البلاد تتعافى ولن تجوع    الرئيس السيسي يوجه برد مشروع قانون الإجراءات الجنائية إلى مجلس النواب    عضو مركز الأزهر: ثلاث أوقات تُكره فيها صلاة النفل بلا سبب    القابضة لمياه الشرب تكرّم الفائزين في مسابقة العامل المثالي لعام 2025    إضافة اختصاصات جديدة لوحدة تخطيط الطاقة بمجلس الوزراء    خطة شاملة لتطوير الصحة المدرسية من خلال الاكتشاف المبكر للأمراض    غياب لامين يامال.. قائمة برشلونة لمباراة خيتافي في الدوري الإسباني    فوز السكة الحديد وبروكسي.. نتائج مباريات الأحد في الدور التمهيدي لكأس مصر    4 أفلام في 2025.. مصطفى غريب يحصد جائزة أفضل ممثل كوميدي من «دير جيست»    العالم يشهد اليوم كسوفًا جزئيًا في الشمس.. هل تظهر في مصر؟    البيت الأبيض يحدد صفقة «تيك توك» التي تمنح أمريكا السيطرة على الخوارزمية    محافظ المنوفية: 550 مليون جنيه استثمارات لتطوير التعليم بالمحافظة    سعر الذهب في مصر يقفز بنحو 8 أضعاف في 9 سنوات (انفوجرافيك)    صافرات الإنذار تدوي في عسقلان وأسدود بعد إطلاق صواريخ من غزة    قبول دفعة جديدة من المجندين بالقوات المسلحة مرحلة يناير 2026    مدينة الدواء "جيبتو فارما".. أمان دوائي لمصر واستثمار في صحة المواطن| فيديو    عادات يومية تهدد قلبك وتقلل من إنتاج «أكسيد النيتريك»    مواقيت الصلاه اليوم الأحد الموافق 21 -9-2025 في سوهاج    أستراليا تعلن اعترافها رسميًا بدولة فلسطين    انطلاق برنامج "بالعبرى الصريح" مع هند الضاوي على القاهرة والناس    وكيل «تعليم بورسعيد» يشهد أول طابور صباحي بالعام الدراسي الجديد (فيديو)    "الغضب يزداد من هلال".. الغندور يفجر مفاجأة حول مدرب الأهلي الجديد    وائل جسار يعيش انتعاشة غنائية شتوية بين لندن وباريس والمغرب وأمريكا    أمين الفتوى يوضح أوقات استجابة الدعاء    رغم العراقيل الإسرائيلية.. قوافل "زاد العزة" تواصل طريقها من مصر إلى غزة    موقع عبري: إصابة 8 جنود بانقلاب آلية عسكرية إسرائيلية على مشارف مدينة غزة    وزير التعليم أثناء جولته بمحافظة القليوبية : مهنة التدريس "أم المهن" والمعلم المسئول الأول عن وضع الطلاب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جمال القصاص يراوغ خراب الذات متذكراً إليوت
نشر في صوت البلد يوم 07 - 10 - 2017

يرتبط ديوان «جدار أزرق» (بتَّانة) للشاعر مصري جمال القصاص، بالثقافة البصرية، على نحو يبدو فيه المكان ثابتاً، والزمن متغيراً، والإنسان مجرد كائن في عالم افتراضي. الجدار الأزرق هنا شاشة افتراضية، سطح للحرية، للإدراك والحس الفائق، وهو شاشة حقيقية أيضاً، تكتب عليها الذات الشاعرة حياتها وسيرتها، مدركة أن ما تكتبه، قد يرى، وقد لا يرى، لكن المهم بالنسبة إليها أن تكتب، حتى لو كان ما تكتبه هو لنفسها وعنها فقط.
هي إذن ومضات شعرية كتبها جمال القصاص على صفحته أو جداره الأزرق على «فايسبوك»، ثم ما لبثت أن تحولت إلى ديوان، ومن خلال نبضات فرعية صغيرة وانفجارات كبيرة تأكدت تلك العزلة الافتراضية والحقيقية التي يعيشها الإنسان الآن. حضرت الذات المتكلمة في القصائد، وتجلّت على أنحاء شتى: من خلال الحب، والموت، والزمن، وذلك الآخر الموجود في الديوان. كما تعدّدت الضمائر التي عبرت بها الذات عن نفسها، فكانت أحياناً في صيغة المتكلم، وأحياناً بضمير الغائب، أو عبر استحضار الحبيبة وجعلها تتكلم وتعبّر عمّا كانت الذات الأولى تريد أن تقوله، أو تود البوح به، أو التلميح إليه بالاتكاء على دوال القطة، السمكة، المدفأة، الرماد، وغيرها.
وفي الديوان روحٌ سوريالية وأخرى عبثية، وفكاهة وسخرية ومفارقات وثقافة محتشدة في كل صورة شعرية، مثلما يقول: «لم يعد لديَّ وقتٌ هنا/ أعرف وجهاً وحيداً لحياتي/ أعرف كيف يسكنني/ كيف أخرج منه».
وفي معظم القصائد، هناك هذا التعبير المفعم بالألم والشجن، بما أن كل شيء لم يعد كما ينبغي له أن يسير، مرَّ الوقتُ ولم يبق سوى القليل، بقايا أفراح وأحزان وأثر. مضت الحياة على وتيرة واحدة. كان لها وجهٌ واحد، عرفت الذات المتكلمة كيف سكنها، وكيف سيخرج منها، وما كان ذلك الوجه سوى وجه التكرار لكل شيء، على نحو طقسي، وكأن كل شيء يولد، ثم يموت ليولد من جديد. هو التكرار الذي قال عنه فرويد إنه السبب الرئيس الذي يجعل الإنسان يشعر بأنه تائه وغريب. التكرار المصاحب لظاهرة «سبق أن»، والذي نتوهّم من خلاله أن ما نمرّ به الآن، سبق أن مررنا به من قبل.
يقف دافع الموت وراء التكرار، والتكرار الكامل، يقول فرويد، يعني الموت، يعني شيئاً موجوداً وراء السرد، والحياة، والإبداع، لأنه تتم من خلاله إزالة المسافة بين النموذج الأصلي والصورة.
لكن التكرار قد يكون غاية في ذاته، محاولة لإرجاء الفقد، لإبعاد الموت، لكن محاولة إحياء ما قد مضى من خلال استعادته من جديد قد تنطوي أيضاً على نوع من الاستحضار للموتى، لإعادة بعث الأشباح، لتكرار ما يستحيل تكراره، من تجارب وحالات، لأنه لا يمكن أن يوجد مرة أخرى كما كان موجوداً من قبل.
ومن ثم، فإن الاستحضار قد يكون أحياناً مرعباً، لأن الموتى لا يحضرون أبداً، كما كانوا في الحياة إلا في الأحلام، أو في صورة شبحية، قد تتجلى في القصائد، أو على شاشات وحوائط الوعي والعزلة والإدراك، لكنه الحنين أبداً لا يريد أن يفارقنا، وجوهر الحنين التكرار: «ليس لديَّ وقتٌ هنا/ لا أشتهي رفوفاً أخرى تزاحمني فراغي/ عزلتي في داخلي/ دائماً لا أنسى أنني راحل/ أنني أديتُ مهمتي بسلامٍ/ تألمتُ لمساحات الخراب في الوجوه/ نخلتها في خطوتي الصغيرة/ كي أذهبَ أبعد من ظلي/ كي أصون هبائي» (ص 9).
تقع الذات المتكلمة في الديوان في براثن ذلك الشعور المهيمن بقرب الرحيل، بدنوّ الموت، بفقدان الرغبة في أي شيء، كما أنها تدرك أنها تعيش في قبضة عزلة لا ترحمها، وأنها قد أدّت مهمتها بسلام، لكنها تتألم أيضاً وتحزن، على رغم محاولتها التظاهر باللامبالاة، وذلك بسبب ما قد تشاهده كل يوم من مساحات الخراب في الوجوه، تحاول أن تبتعد عنها، وعن ذلك الخراب، أن تذهب إلى ما هو أبعد من ظلها، تحاول أن تصون العدم الذي تواجهه كل يوم، لكن ظلّها مصحوباً بالخراب والألم والعدم يظل يلاحقها كل يوم. ومع ذلك تظلّ الذات المتكلمة في الديوان تتحدث أيضاً عن أمنياتها التي كانت متكرّرة، بأن تسكن بيتاً ما، وأن تعشق امرأة ما، وأن تتسلّق صخرة ما، وأن تكتب نصّاً ما.
الجدار هو رمز للعقبة، للمرور من حيّز إلى آخر، ومن فضاء إلى فضاء، وهو كذلك رمز للانغلاق المقدس أو حتى المرضي المغلق على الذات. الحائط يقسم العالم إلى ذات وموضوع، ما هو داخلي وما هو خارجي، الحائط حاجز، لكنه أيضاً وسيلة للتواصل، للكتابة، للرسم، للحفر، للتعبير. الحائط كالمعنى القديم يمكن اختراقه أو هدمه. وبالمعنى الجديد يمكن التطفّل عليه أو قرصنته. الأول يُصنع من الطين أو الحجر أو الجرانيت، والثاني من نظام رقمي متكامل من الخلايا الإلكترونية والموصلات. في الحالتين؛ أنت في عزلة، هناك آخر موجود خلف الحائط أو وراء الشاشات.
هكذا تتوالى في القصائد، حالات الاستعادة والاجترار والتكرار والإثبات والنفي ومحاولة ترميم جروح الذات: «كنت صالحاً للحب/ أملك مشاعر تذهب/ في ما وراء الجدران». هنا تذكُرٌ للحياة على نحو لقطات سريعة، بوستات موجزة تحمله فوق الموقع الإلكتروني: «لِم في آخر الحقل/ صدمني التاريخُ بأقدامه الغليظة». تتقمّص الذات الشاعرة شخصيات اللصوص والشحاذين والدراويش وماسحي الأحذية وبائعات الفُل والفتوات والرسامين والمرضى العقليين والكتّاب والشعراء والفلاسفة، كل من يستطيع القيام بأفعال غريبة. وتستدعي الذات نفسها مقاطع من إليوت وأرضه الخراب؛ حيث (نيسان أقسى الشهور)، أما لدى جمال القصاص فإن آذار ليس أقسى الشهور، لكن في الحالتين هناك خرابٌ بلا وجيعة. كان إليوت يتحدّث عن خيبة جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويتحدّث القصاص عن خيبة جيل السبعينات ما بعد هزيمة 1967 وما طرأ على مصر والمنطقة العربية من خراب وخيبات. هنا أرض خرابٍ آخر. هنا أرض الوحشة والعزلة وانهيار الأحلام، حيث الذات من خلال الابتعاد تحاول أن تبحث عن معنى أو يقين للتجارب والذكريات وتأمّل الروح والجسد والعلاقات، فلا يواجهها سوى العدم والخراب والتكرار، يقول: «أمس/ أنا جمال القصاص/ واليوم/ أنا جمال القصاص/ وغداً أنا جمال القصاص/ وحين أموت أيضاً/ أنا جمال القصاص/ يا لبؤس رجل بأربعة أقنعة/ لا يعرف كيف يشفى بها من اسمه». ويقول كذلك: «مازلتُ أكمل معجزتي الصغيرة/ أذهب إلى العمل وأكتب الشعر/ أصنع طعامي بأشياء بسيطة للغاية/ لا أكفّ عن التفكير في أصدقائي/ أخشى من لوثة السقوط الأخير/ في حفرة النور».
وتتحدّث الذات عن إجادتها رفو جواربها، عن غسلها الأطباق أولاً بأول، وترتيبها ملابسها، وطرائقها المتعددة في صنع القهوة، وعن احترامها يد الخباز، ومكنسة عامل النظافة، وشعورها بأنها تنتمي إلى شيء ما: «ينبغي أن نكون أحراراً/ نحن أشباهُ حقائق/ كذبةٌ غير قابلة للنسيان/ نعيش كأموات مهذّبين/ نعرف كيف نخفي القاتل/ في طيّات الملابس/ في شرائط منع الحمل/ في أقراص السكّري/ وصناديق القمامة».
فهكذا، ينتهي الأمر دائماً بفقدان الشغف، فلم يعد الشاعر مشغوفاً بتحية فتاة المتجر، باصطياد «وجهه من غبار الأرصفة»، لكنه يظل، على رغم ذلك، يحنّ إلى آخرٍ ما، إلى حفلة يوجد فيها معه، إلى نظرة، إلى شيء ما، يخرجه من حياة لا تختلف عن الموت، ومِن هذا التكرار الأليم.
يرتبط ديوان «جدار أزرق» (بتَّانة) للشاعر مصري جمال القصاص، بالثقافة البصرية، على نحو يبدو فيه المكان ثابتاً، والزمن متغيراً، والإنسان مجرد كائن في عالم افتراضي. الجدار الأزرق هنا شاشة افتراضية، سطح للحرية، للإدراك والحس الفائق، وهو شاشة حقيقية أيضاً، تكتب عليها الذات الشاعرة حياتها وسيرتها، مدركة أن ما تكتبه، قد يرى، وقد لا يرى، لكن المهم بالنسبة إليها أن تكتب، حتى لو كان ما تكتبه هو لنفسها وعنها فقط.
هي إذن ومضات شعرية كتبها جمال القصاص على صفحته أو جداره الأزرق على «فايسبوك»، ثم ما لبثت أن تحولت إلى ديوان، ومن خلال نبضات فرعية صغيرة وانفجارات كبيرة تأكدت تلك العزلة الافتراضية والحقيقية التي يعيشها الإنسان الآن. حضرت الذات المتكلمة في القصائد، وتجلّت على أنحاء شتى: من خلال الحب، والموت، والزمن، وذلك الآخر الموجود في الديوان. كما تعدّدت الضمائر التي عبرت بها الذات عن نفسها، فكانت أحياناً في صيغة المتكلم، وأحياناً بضمير الغائب، أو عبر استحضار الحبيبة وجعلها تتكلم وتعبّر عمّا كانت الذات الأولى تريد أن تقوله، أو تود البوح به، أو التلميح إليه بالاتكاء على دوال القطة، السمكة، المدفأة، الرماد، وغيرها.
وفي الديوان روحٌ سوريالية وأخرى عبثية، وفكاهة وسخرية ومفارقات وثقافة محتشدة في كل صورة شعرية، مثلما يقول: «لم يعد لديَّ وقتٌ هنا/ أعرف وجهاً وحيداً لحياتي/ أعرف كيف يسكنني/ كيف أخرج منه».
وفي معظم القصائد، هناك هذا التعبير المفعم بالألم والشجن، بما أن كل شيء لم يعد كما ينبغي له أن يسير، مرَّ الوقتُ ولم يبق سوى القليل، بقايا أفراح وأحزان وأثر. مضت الحياة على وتيرة واحدة. كان لها وجهٌ واحد، عرفت الذات المتكلمة كيف سكنها، وكيف سيخرج منها، وما كان ذلك الوجه سوى وجه التكرار لكل شيء، على نحو طقسي، وكأن كل شيء يولد، ثم يموت ليولد من جديد. هو التكرار الذي قال عنه فرويد إنه السبب الرئيس الذي يجعل الإنسان يشعر بأنه تائه وغريب. التكرار المصاحب لظاهرة «سبق أن»، والذي نتوهّم من خلاله أن ما نمرّ به الآن، سبق أن مررنا به من قبل.
يقف دافع الموت وراء التكرار، والتكرار الكامل، يقول فرويد، يعني الموت، يعني شيئاً موجوداً وراء السرد، والحياة، والإبداع، لأنه تتم من خلاله إزالة المسافة بين النموذج الأصلي والصورة.
لكن التكرار قد يكون غاية في ذاته، محاولة لإرجاء الفقد، لإبعاد الموت، لكن محاولة إحياء ما قد مضى من خلال استعادته من جديد قد تنطوي أيضاً على نوع من الاستحضار للموتى، لإعادة بعث الأشباح، لتكرار ما يستحيل تكراره، من تجارب وحالات، لأنه لا يمكن أن يوجد مرة أخرى كما كان موجوداً من قبل.
ومن ثم، فإن الاستحضار قد يكون أحياناً مرعباً، لأن الموتى لا يحضرون أبداً، كما كانوا في الحياة إلا في الأحلام، أو في صورة شبحية، قد تتجلى في القصائد، أو على شاشات وحوائط الوعي والعزلة والإدراك، لكنه الحنين أبداً لا يريد أن يفارقنا، وجوهر الحنين التكرار: «ليس لديَّ وقتٌ هنا/ لا أشتهي رفوفاً أخرى تزاحمني فراغي/ عزلتي في داخلي/ دائماً لا أنسى أنني راحل/ أنني أديتُ مهمتي بسلامٍ/ تألمتُ لمساحات الخراب في الوجوه/ نخلتها في خطوتي الصغيرة/ كي أذهبَ أبعد من ظلي/ كي أصون هبائي» (ص 9).
تقع الذات المتكلمة في الديوان في براثن ذلك الشعور المهيمن بقرب الرحيل، بدنوّ الموت، بفقدان الرغبة في أي شيء، كما أنها تدرك أنها تعيش في قبضة عزلة لا ترحمها، وأنها قد أدّت مهمتها بسلام، لكنها تتألم أيضاً وتحزن، على رغم محاولتها التظاهر باللامبالاة، وذلك بسبب ما قد تشاهده كل يوم من مساحات الخراب في الوجوه، تحاول أن تبتعد عنها، وعن ذلك الخراب، أن تذهب إلى ما هو أبعد من ظلها، تحاول أن تصون العدم الذي تواجهه كل يوم، لكن ظلّها مصحوباً بالخراب والألم والعدم يظل يلاحقها كل يوم. ومع ذلك تظلّ الذات المتكلمة في الديوان تتحدث أيضاً عن أمنياتها التي كانت متكرّرة، بأن تسكن بيتاً ما، وأن تعشق امرأة ما، وأن تتسلّق صخرة ما، وأن تكتب نصّاً ما.
الجدار هو رمز للعقبة، للمرور من حيّز إلى آخر، ومن فضاء إلى فضاء، وهو كذلك رمز للانغلاق المقدس أو حتى المرضي المغلق على الذات. الحائط يقسم العالم إلى ذات وموضوع، ما هو داخلي وما هو خارجي، الحائط حاجز، لكنه أيضاً وسيلة للتواصل، للكتابة، للرسم، للحفر، للتعبير. الحائط كالمعنى القديم يمكن اختراقه أو هدمه. وبالمعنى الجديد يمكن التطفّل عليه أو قرصنته. الأول يُصنع من الطين أو الحجر أو الجرانيت، والثاني من نظام رقمي متكامل من الخلايا الإلكترونية والموصلات. في الحالتين؛ أنت في عزلة، هناك آخر موجود خلف الحائط أو وراء الشاشات.
هكذا تتوالى في القصائد، حالات الاستعادة والاجترار والتكرار والإثبات والنفي ومحاولة ترميم جروح الذات: «كنت صالحاً للحب/ أملك مشاعر تذهب/ في ما وراء الجدران». هنا تذكُرٌ للحياة على نحو لقطات سريعة، بوستات موجزة تحمله فوق الموقع الإلكتروني: «لِم في آخر الحقل/ صدمني التاريخُ بأقدامه الغليظة». تتقمّص الذات الشاعرة شخصيات اللصوص والشحاذين والدراويش وماسحي الأحذية وبائعات الفُل والفتوات والرسامين والمرضى العقليين والكتّاب والشعراء والفلاسفة، كل من يستطيع القيام بأفعال غريبة. وتستدعي الذات نفسها مقاطع من إليوت وأرضه الخراب؛ حيث (نيسان أقسى الشهور)، أما لدى جمال القصاص فإن آذار ليس أقسى الشهور، لكن في الحالتين هناك خرابٌ بلا وجيعة. كان إليوت يتحدّث عن خيبة جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويتحدّث القصاص عن خيبة جيل السبعينات ما بعد هزيمة 1967 وما طرأ على مصر والمنطقة العربية من خراب وخيبات. هنا أرض خرابٍ آخر. هنا أرض الوحشة والعزلة وانهيار الأحلام، حيث الذات من خلال الابتعاد تحاول أن تبحث عن معنى أو يقين للتجارب والذكريات وتأمّل الروح والجسد والعلاقات، فلا يواجهها سوى العدم والخراب والتكرار، يقول: «أمس/ أنا جمال القصاص/ واليوم/ أنا جمال القصاص/ وغداً أنا جمال القصاص/ وحين أموت أيضاً/ أنا جمال القصاص/ يا لبؤس رجل بأربعة أقنعة/ لا يعرف كيف يشفى بها من اسمه». ويقول كذلك: «مازلتُ أكمل معجزتي الصغيرة/ أذهب إلى العمل وأكتب الشعر/ أصنع طعامي بأشياء بسيطة للغاية/ لا أكفّ عن التفكير في أصدقائي/ أخشى من لوثة السقوط الأخير/ في حفرة النور».
وتتحدّث الذات عن إجادتها رفو جواربها، عن غسلها الأطباق أولاً بأول، وترتيبها ملابسها، وطرائقها المتعددة في صنع القهوة، وعن احترامها يد الخباز، ومكنسة عامل النظافة، وشعورها بأنها تنتمي إلى شيء ما: «ينبغي أن نكون أحراراً/ نحن أشباهُ حقائق/ كذبةٌ غير قابلة للنسيان/ نعيش كأموات مهذّبين/ نعرف كيف نخفي القاتل/ في طيّات الملابس/ في شرائط منع الحمل/ في أقراص السكّري/ وصناديق القمامة».
فهكذا، ينتهي الأمر دائماً بفقدان الشغف، فلم يعد الشاعر مشغوفاً بتحية فتاة المتجر، باصطياد «وجهه من غبار الأرصفة»، لكنه يظل، على رغم ذلك، يحنّ إلى آخرٍ ما، إلى حفلة يوجد فيها معه، إلى نظرة، إلى شيء ما، يخرجه من حياة لا تختلف عن الموت، ومِن هذا التكرار الأليم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.