ما زلنا نحن العرب نباهي بتكريم الخليفة العبّاسي المأمون للمترجمين في عصره ، الذين حضّهم على نقل روائع الفكر اليوناني إلى العربيّة ، وكّل ما هو هّام من العلوم وما يغني معرفة عرب ذلك الزمان، وكافأهم بمردود مادي يكفل لهم عيشاً كريماً ، ناهيك عن التقدير الذي حظوا به في مجالسه . في زمن التخلّف العربي الممتّد طيلة قرون، ومع تفاقم حالة الانكفاء، والتفتت ، ولا سيّما في حضيض الزمن الراهن ، واستفحال بؤس ( ثقافة) الدولة العربيّة الإقليميّة ، بحدوها النابذة والمستريبة المعادية للثقافة ممثلّة بالكتاب ، وكل ما هو مكتوب، لا غرابة أن المترجم أسوةً بالكاتب ( المبدع) لا يحصل على مردود يكفي لعيشه من ( جهده) ، إذ لا حاجة للكاتب ولا للمترجم في بلاد الاستهلاك والتبعيّة ، وتعمّد محو الهويّة القوميّة بعمقها الثقافي . لكن ( المترجم) الأدبي العربي، رغم كّل الجحود، بهمّة تستحّق الثناء، يجهد نفسه في نقل بعض شوامخ الأدب والفكر من لغات ( الآخر) مشرقاً ومغرباً، وبهذا يغني معرفة المثقفين، والمبدعين العرب، والقراء المتشوقين للمعرفة . واحد من الذين يغنون المكتبة العربيّة هو صديقي صالح علماني، الذي عشت وإيّاه جيراناً لسنوات في ( زقاق ) ضيّق أصغر من( زقاق المدّق) في رائعة نجيب محفوظ، في دخلة هواؤها قليل، موحلة شتاءً، مغبرّةً صيفاً، في شقتين طالما تبادلنا الحديث وأكواب الشاي وفناجين القهوة على شرفتيهما المختنقتين بمبان فوضويّة أنشئت على أراض زراعيّة ، في موقع هو امتداد لمخيّم اليرموك، قرب دمشق، اسمه ( الحجر السود) . الحمد لله فبعد تضحيات تمكّن صالح من إنقاذ أسرته من بؤس ذلك المكان ، ووفّر لنفسه هدوءاً طالما احتاجه لمواصلة ترجمة روائع يختارها بمزاجه وحسن ذوقه . حتى نهاية العام 2006 نقل صالح علماني إلى اللغة العربية 65 عملاً روائيّاً ، وقصصيّاً ، ومسرحيّاً ،وشعريّاً ، عن اللغة الإسبانية ، لغة إسبانيا والقّارة الأمريكيّة اللاتينيّة التي تتكلّم وتكتب بالإسبانيّة ( باستثناء البرازيل التي تتكلّم البرتغاليّة ، وهي لغة قريبة جدّاً بينها وبين الإسبانيّة شراكة وتداخل ) . في عام 2006 صدر لصالح علماني كتابان مترجمان عن الإسبانية ، هما ( الديكاميرون ) لبوكاشيو ، و( صنعة الشعر) لخورخي لويس بورخيس، والذي يضّم سّت محاضرات عن : لغز الشعر ، موسيقا الشعر ، الاستعارة ، موسيقى الكلمات المترجمة ، معتقد الشاعر ، فّن حكاية القصص . هذه أوّل مرّة ينقل فيها صالح علماني عملاً من اللغة الإسبانيّة لم يكتب بها، فالديكاميرون رائعة جيوفاني بوكاشيو في مطلع عصر النهضة، مكتوبة بالإيطاليّة ، يعتز الإيطاليّون بها كما نعتز نحن بألف ليلة وليلة . الديكاميرون في الترجمة العربيّة تقع في سبعمائة صفحة وصفحتين ( 702) من القطع الكبير . أخبرني الصديق صالح علماني بأنه وصل ليله بنهاره على مدى عشرة أشهر لتقديم ترجمة لائقة بهذا العمل الكلاسيكي الكبير بما يتمتّع به من قيمة أدبيّة رياديّة أوربيّاً وعالميّاً ، والذي يرى كثير من نقّاد الأدب انه المعلم البارز التأسيسي للرواية الحديثة . قدّم ( علماني) للترجمة بمقدّمة ضافيّة تقع في 38 صفحة للتعريّف بفّن بوكاشيو ، وعلاقاته الأدبيّة ، ومغامراته وإحباطاته النسائيّة ، وصداقته مع شاعر إيطاليا الأكبر ( بترارك) ، وكتاباته التي مهدّت لظهور هذا العمل الفّذ ، وما لحق به من تشويه واتهام بأنه يدعو للفساد والتحلّل ، تماماً كما هو الشأن مع ( ألف ليلة وليلة ) . تدور أحداث (الديكاميرون ) في عشرة أيّام ، في تلك الفترة الرهيبة التي حصد فيها الطاعون الأسود أرواح 25 مليوناً من الأوربيين ، هم حوالي ربع السكّان في النصف الأوّل من القرن الرابع عشر . يتناوب على رواية ليالي (الديكاميرون ) عشرة أشخاص، هم سبع نساء ، وثلاثة رجال ، نأوا بأنفسهم بعيداً عن الأمكنة التي ينتشر فيها الوباء ، طلباً للتسلّي والتسريّة بعيداً عن الأحزان والكآبة ومشاهد الموت اليومي المخيف ، وتدور الحكايات بين عدّة محاور، وكّل محور تختاره ( ملكة) أو ( ملك) الليلة . دانتي الليجيري ( الكوميديا الإلهيّة ) و( بتراركا) شاعر الطليان الأعظم ، و( بوكاشيو) ينتسبون إلى مدينة ( فلورنسا) التي كان من تقاليد برجوازيتها رعاية الثقافة والفنون ، والعناية بتزيين بيوتهم المترفة بروائع اللوحات الفنيّة . يكتب صالح علماني في المقدمّة حول ترجمة هذا الأثر الدبي الشامخ : على الرغم من انقضاء سبعة قرون على ظهور هذا الكتاب لأوّل مرّة باللغة الإيطالية العّاميّة _ الآخذة بالانشقاق عن اللاتينيّة آنذاك_ إلاّ أنه لم ينقل إلى العربيّة كاملاً من قبل ، بل ظهر منه في النصف الأوّل من القرن الماضي عدد من القصص ضمن مجموعتين قصصيتين ، بترجمة كامل كيلاني . وفي خمسينات القرن الماضي ، ربّما في العام 56 ، وضمن سلسلة ( كتابي ) التي كان يشرف على إصدارها حلمي مراد ، صدر الكتاب الثالث عشر من السلسلة بعنوان ( الديكاميرون / ألف ليلة وليلة الإيطاليّة ) بترجمة إسماعيل كامل . يصف ( علماني ) ترجمة كيلاني بأنها : أقرب إلى التعريب مثلما جرت العادة في مطلع القرن العشرين ، حيث يعمد المترجم إلى إعادة صياغة النّص بأسلوب إنشائي مزخرف ، وبلغة عربيّة محشوّة بالتنميق ، يكثر فيها المحسنّات اللفظيّة التي تثقل أحيانا على القصّة ، ولا يتورّع في أحيان أخرى عن إضافة فقرات مطوّلة ، أو الخروج باستنتاجات أخلاقيّة . لا يغمط ( علماني ) حّق من سبقه من المترجمين العرب الآباء ، ولكنه بجمل قليلة يحدد فهمه للترجمة ، ودور المترجم ، ومفهومه للأمانة تجاه النّص المترجم ، وتجاه المتلقّي العربي . لم يشر علماني لمترجمين بعينهم من الذين كانوا يتصرّفون في النصوص ، ولكنني أذكّر القرّاء مثلاً بترجمات المرحوم مصطفى لطفي المنفلوطي ( ماجدولين ، وفي سبيل التاج ) عن الفرنسيّة التي لم يكن يتقنها ، ولكنه كان يصوغ ما يترجّمه غيره بلغة أدبيّة إنشائيّة لا تراعي الدقّة وتشتّط في الجموح العاطفي والبكائيّات ، وبترجمات خليل بيدس الفلسطيني من أصل روسي ، عن الأدب الروسي وكيف كان يبيح لنفسه الحّق في تغيير النهايات ليجعلها سعيدة بحيث لا تعكّر صفو خاطر القارئ العربي ، وهو لم يكن يخفي ما ( يقترفه) ملتمساً لنفسه العذر بان مشاعرنا وأخلاقنا نحن العرب تختلف عن غيرنا . يختتم ( علماني ) مقدّمته الضافية الغنيّة بإنصاف روّاد الترجمه العرب : ومع ذلك يبقى للمترجمين شرف الريادة في نقل نماذج من قصص ( الديكاميرون) ، وتعريف القارىء العربي في وقت مبكّر بهذا العمل الفنّي البارع الذي لم تبق لغة في العالم ، مهما صغر شأنها ، إلاّ وترجم إليها . في ألف ليلة وليلة تنقذ جدّتنا شهرزاد نفسها وبنات جنسها من الموت المحتّم بالحكايات ، وتؤنسن الملك شهريار وتطهّر نفسه ، وفي (الديكاميرون ) ، يواجه النساء والرجال الموت بقّص الحكايات الطريفة المسليّة والممتعة عقلاً ، ولأنها حكايات حيّة إنسانيّة عميقة فإنها تعبر العصور ، والمسافات ، والأزمنة ، وتخلد على الدهر . في أيّام الخليفة المأمون كان المترجم يكافأ بوزن كتابه ذهباً _ لأنه يعرّف بالآخر ، ويثري معرفة قومه _ وفي زمننا العربي الراهن ، لا الكاتب المبدع ، ولا المترجم المبدع ، يقدّران حّق قدرهما. وأخيراً ليس عندنا نحن الكتّاب والقرّاء سوى الكلمات التي شكرنا بها من قبل المترجمين العرب الذين عرّفونا بأداب ، وثقافات ( الآخرين) ، وأطلعونا على ما بلغته من تطوّر ، يتقدّمهم الدكتور ثروت عكاشة ، وجبرا إبراهيم جبرا ، والدكتورسهيل إدريس ..وكثيرين يستحقّون الثناء ، وهذا أقّل ما نكافئهم به أحياءً وأمواتاً . أحسب أن المترجم العربي جدير بان يكرّم ، وفي بالي عدد من المترجمين الجّادين المجتهدين ، ولعلّ جيل صديقي صالح علماني بعد كّل ما قدّمه يستحق التكريم ونيل الجوائز أسوةً بالروائيين ، والشعراء ، والنقّاد ، والقصاصين . آن أن نتعامل مع المترجم كمبدع يتفانى في العطاء والتضحيته بوقته ، وجهده ، رغم بخسه حقّه ماديّاً وأدبيّاً. العام الماضي تنبّه المعنيون في مصر فكرّموا بعد التجاهل والتقصير المزمن الدكتور ثروت عكاشه الذي ستبقى الأجيال تتغذّى من روائع الفّن ، والشعر ، التي نقلها إلى العربيّة الصديق صالح علماني جدير بأن يكرّم على كّل ما قدّم من ترجمات مكّنت كثيرين من معرفة اتجاهات الإبداع الروائي ، والشعري ، والقصصي ، والمسرحي ، في أمريكا اللاتينيّة ، وإسبانيا ، فهو ترجم باللغة العربيّة ، للقرّاء العرب في شتّى أقطارهم ، رغم الحدود والرقابات التي تباعد بينهم. صالح علماني يشكر على ترجمة ( الديكاميرون) ، و.أحسب أن الشعراء العرب الذين لا يجيدون الإسبانيّة سيشكرونه على ترجمة ( صنعة الشعر ) لبورخيس ، والذي سنشاركهم قراءته غير متطفلين ، فبين الشعر والروايةً وشائج ، ولعلّ صالح علماني لما بين هذين الفنين من صلة ، عمد إلى ترجمة هذين العملين الأدبيين معاً في عام واحد . .... *هذه المقالة فصل من كتاب ( كتابات محبة ) الذي سيصدر للكاتب رشاد أبو شاور عن وكالة الصحافة العربية ( ناشرون ) بالقاهرة .