"فإنني أقدم يد العون لأولئك اللواتي يعانين من آلام الحب، أما الأخريات ممن وجدن سلواهن في أعمال الحياكة والتطريز، فسأحكي لهن مئة قصة أو أسطورة أو حكمة أو رواية أو ماتريدون من التسميات". بهذه الكلمات يقدم جيوفاني بوكاتشيو للديكاميرون، هذا الكتاب الذي صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب" الديكاميرون" 2016 في جزءين ضمن سلسلة المائة، والكتاب بترجمة الدكتور عبدالله عبد العاطي النجار وتقديم الدكتور حسين محمود. حكايات بوكاتشيو الديكاميرونية هي حكايات رمزية، إنسانية، تخييلية، كُتبت في القرن الرابع عشر، وهي من الأعمال الأدبية الإيطالية القليلة التي ساهمت- بجانب أعمال دانتي -الممثلة في الكوميديا الإلهية، وأعمال بترارك الشعرية - في ظهور اللغة الإيطالية كلغة أدبية بعيدا عن اللغة اللاتينية لأن اللغة الإيطالية لم تصبح لغة قومية عامة إلا بعام 1870 م، ورائعة جيوفاني الديكاميرون التي كُتبت حوالي 1349-1353م ماهي إلا تمثيل للثقافة الشعبية الإيطالية في مرحلة قديمة بالمقارنة للآن، وهي تصور مائة قصة قصيرة علي لسان عشرة شخصيات نسائية وذكورية- مائة قصة تمتاز بأنها تمتلك تصويرا فريدا لمشاهد عصرها وإن غلب عليها حس الفكاهة والواقعية التي تمتاز بها الشخصية الإيطالية في العموم. إن تحول البطل في الأدب الغربي من كونه ذلك الفارس المغوار لشخص عادي كان ولا شك في ذلك- من مميزات حكايات الديكاميرون، إن البطل/ الشخص بات من خلال تلك القصص التي يرويها بوكاتشيو أكثر إنسانية بكل فضائله ومثالبه، بكل قوته وضعفه، في مواجهة الحظ والحب والذكاء والجدل، ومحيطه أيضا، والكتاب يعد إنصافا للمرأة وكأنه بمثابة اعتذار لها، وما يحسب لجيوفاني بوكاتشيو هو روح المغامرة والتجريب سواء علي مستوي اللغة أو الشخصيات من خلال الوصف المذهل لأدق التفاصيل، ولعل غياب القضايا الدينية والأخلاقية والسياسية المسيطرة في وقتها عن الحكايات حيث كان الوعظ سائدا بكثرة - من أكثر مزايا الكتاب النثري لبوكاتشيو،ويعد هذا الغياب في حد ذاته بمثابة ثورة علي الوضع حينئذ. حكايات الديكاميرون أو حكايات ألف ليلة وليلة الإيطالية كما يشاع عن "الديكاميرون" تعتبر باكورة الإنتاج القصصي الأوربي، الذي لم يعرف "الرومانسية" إلا بعد عصر التنوير في آواخر القرن الثامن عشر، أي بعد أربعة قرون من ظهور كتاب جيوفاني بوكاتشيو، والزمن في تلك الحكايات واللعب به يعد العمود الفقري لبناء تلك القصص المائة، وليس مصادفة أن الزمن عشرة أيام والشخصيات عشرة أيضا، وهذه الأيام العشرة هي الأيام الكافية للنجاة من وباء الطاعون القاتل، ورغم هذا التشابه الكبير في الوظيفة بين عنوان الدكاميرون والليالي في ألف ليلة وليلة العربية إلا أن بوكاتشيو قد أدرك هذه الحيلة من مجموعة أخري تأكد أنها ترجمت إلي اللاتينية في عصره، وهي "الوزراء السبعة" التي تحكي أيضا قصة الأمير سندباد، وكذلك فإن المدلول الرقمي الزمني للحل الروائي في الديكاميرون علي حد قول الدكتور حسين محمود- انتقلت إليه أيضا تقنية الحكاية الإطارية التي تصلح ذريعة لرواية العديد من الحكايات مختلفة الموضوعات والأبطال، هو نفسه منطق الحكواتي أو جلسات الحكي الشعبي. والحقيقة أن البنية القصصية أكثر انتظاما في الديكاميرون منها في حكايات ألف ليلة وليلة الشرقية. الديكاميرون مجموعة من الحكايات تهدف للغوص في الحياة الإنسانية من خلال هؤلاء العشرة ذوي الأسماء المستعارة، وتهدف لمواجهة الخوف، ورغم أنها مليئة بالانتصارات الجنسية في نهاية الكثير من القصص إلا أنها تهدف للحياة ومن أجل الحياة كانت تلك القصص المئة، إنها قصص الصراع ما بين الشر والخير وقصص الرصد التحليلي لمدينة/ قارة وقعت رغما عنها تحت وطأة رجال الدين وتحت حكم السيطرة الأخلاقية للكنيسة. وأخيرا فإن بوكاشيو قد كتب هذه الرواية إلي نساء عصره بهدف تسليتهن، حيث كُنَّ محرومات من وسائل اللهو المتاحة للرجال في ذلك العصر، لتصبح فيما بعد تصنف إلي جانب أعمال هوميروس وشكسبير والكتب المقدسة، وستظل تلك الحكايات من الملهمات للأدب الإنساني بجانب حكايات ألف ليلة وليلة لما لها من أهمية ومن ثراء شمل الحياة الإنسانية بلمسة بوكاتشيو الساحرة وكأنه رسام من رسامي عصر النهضة.