على الرغم من السيارات المفخخة التي يفجّرها الدواعش هنا أو هناك في بغداد مستهدفين الأبرياء والعزّل، في محاولة منهم لتغطية هزائمهم المتلاحقة في "أم الربيعين" الموصل الحدباء، الا ان البلاد التي اخترعت الكتابة للعالم، وعلّمت البشرية الأبجدية، وقدّمت للحضارة الإنسانية أولى النصوص الأدبية والملحمية المكتوبة على رقم الطين، انحازت الى قدرها الثقافي، وكان من اللافت أن يقام فيها معرض دولي للكتاب، وكل ما فيها يقول لك إنها مدينة مقاتلة ومدينة مناضلة، تتكابر على جروحها وعلى التهديدات المحيطة بدقائق يومها وتهبّ بمختلف أجيالها لتتزاحم على اقناء كتاب، أو حضور أمسية. عشرات دور النشر، ومئات العناوين، وآلاف الزوّار اليوميين، أعطوا لأيام المعرض التي امتدت من 22-31 مارس/آذار، ثم مدّد يوما آخر، بهاء ذكّر جميع المتابعين بما تعنيه بغداد العصور للثقافة والابداع. الشعر يضيء الفعاليات الثقافية وعلى جري العادة في معارض الكتاب المشابهة عربيا ودوليا، أعّدت اللجنة المنظمة للمعرض، وباستشارية نخبة من المبدعين والأكاديميين، منهاجا ثقافيا حافلا بالأماسي والمحاورات الفكرية، ولأن بغداد موطن الشعر حتى قيل ان شعراءه بعدد نخيله، لذلك كان مفتتح الفعاليات هو الشعر، والذي خصصت أمسيته الافتتاحية للشاعر الكبير، شاعر الفقراء "جواد الحطاب". في البدء تحدّث الحطاب، عن علاقة الشاعر بالجمهور، خصوصا إذا كان هذا الجمهور من الطبقة المثقفة، وبيّن ان كل الشعراء العرب يحرصون على المجيء الى بغداد والقراءة فوق منصاتها، ليقينهم أن جمهور هذه المدينة الفاتنة هو الذي تعطي "الاجازة" الحقيقية لأي شاعر يريد ان يكون نجما ومائزا في عالم القصيدة، واستشهد بمقولة محمود درويش "الشِّعْرَ يُولَدُ في العراقِ، فكُنْ عراقيّاً لتصبح شاعراً يا صاحبي". ليبدأ بعدها قراءاته، والتي أهداها الى صديقه الشاعر الكبير الدكتور حامد الراوي، مبتدئا بقصيدة الى مقاتلي وطنه الذين يصنعون فجرا جديدا ينتزعون شموسه من ليل داعش المسنّن في الموصل وفي الأنبار وصلاح الدين، ثمّ عرّج على "المتنبي" عاتبا عليه تمجيده ممدوحين لم ترتق بهم أفعالهم للارتباط بقصائده، وبضربة شعرية كأنها وقع بلطة على شجرة، أنهى الحطاب قصيدته قائلا: "لو كنت مكان المتنبي لوضعت الأمراء جميعا في الحمام وسحبت السيفون، ط و ي لا". اما حين قرأ قصيدة "الهمرات" فقد أصبح صوته جهوريا مثل طرقات قوية على باب القلب: "بلادي : بلادي ليس لديها فرع اخر كي اتركها للأمريكان". ثم يقول في آخرها وبتصميم فذ: "بلادي .. بلادي حتى لو كان لديها فرع آخر لن اتركها للأمريكان". وبإدانة لكل الساسة وانشغالهم بسرقة الثروات قرأ الحطاب "تركوا العراق بغرفة الانعاش – وانشغلوا بالقسام الشرعي". طوال ما يقرب من ساعة ونصف، كانت مختارات الشاعر الذي لقّبته الصحافة العربية ب "شاعر المقاومة" لكونه أول شاعر - من الداخل - يتصدّى بالشعر للاحتلال الاميركي، و"شاعر الفقراء"، كما يحلو لعشاق شعره ان يسمّونه نسبة لديوانه الأول "سلاما أيها الفقراء" حلّق بالجمهور الذي امتلأت به القاعة حتى فاق عدد الواقفين أولئك الجالسين على الكراسي، في سماوات الشعر وعوالمه المدهشة، ليعيش روّاد معرض الكتاب ليلة شعرية بامتياز. وفي مفارقة لافتة للنظر، ان يدعى الحطاب ليختتم الفعاليات الثقافية كما بدأها، ففي الأمسية الأخيرة والتي شهدت قراءات شعرية لكوكبة من فرسان القصيدة (منذر عبدالحر، عارف الساعدي، جابر الجابري، عامر عاصي، عمر السراي، مروان عادل) والذين رسموا لوحة زاهية لما وصلت اليه الشعرية العراقية، دعي الحطّاب الذي كان بين جمهور المستمعين، ليضع توقيعه على ختام الفعاليات الثقافية بقراءة مختارات من قصائده، فبحسب القيمين على المنهاج الثقافي انهم أرادوا ان تفتتح فعالياتهم بالحطاب وان تختتم به، لما يمثّله من أهمية في الشعر العراقي والعربي المعاصر. ختاما .. وفي مناسبة كبيرة بحجم عظمة التحدي للهجمة الظلامية على روح الابداع والجمال كانت ليالي الشعر مترافقة مع افتتاح معرض الكتاب في بغداد، وكان منتدى فيض الابداع سباقا في احتضان تلك الليالي ورعايتها، مثلما كان لعرّابها الاديب والباحث الأكاديمي الدكتور مزهر الخفاجي دور مميّز في التنظيم والمتابعة. وللحديث عن الجمهور لي ملاحظتان أود التطرق اليهما، أولهما أن هذه الأماسي كانت بشارة، ووعدا من ان الشعر لم يزل بخير، وأن لا قطيعة بين الشاعر والجمهور، ومما لا شك فيه أن للحطاب جمهورا كبيرا يتابع أمسياته ونشاطاته ويتفاعل معها ليس على مستوى العراق بل على مستوى الوطن العربي، لكن كثافة الحضور واستجابته وتفاعله مع عوالم القصيدة، يؤكّد بما لا يقبل الشكل بأن الشعر هو خيار الجمهور الأول. والملاحظة الثانية أن بعض أصدقاء الحطاب قد ركبوا بالطائرة من إقليم كردستان وجاءوا الى بغداد فقط لحضور الأمسية ك معن الجبوري المحّلل الاستراتيجي المعروف، مثلما اكتظت القاعة بشعراء ونقّاد مبدعين أشار إليهم الحطاب بالأسماء كقيس مجيد المولى، وقاسم محمد مجيد الساعدي، والشاعرة نادية الدليمي. وما يلفت الانتباه أن وقائع الجلسة صوّرت لأديبة في السعودية وبثت مباشرة عن طريق الفيديو بوساطة إحدى صديقاتها.