ورغم أن عبدالقادر استخدم مفردات مثل الغرابة والتوسع, وغيرها كمرادفات للغموض, إلا أن الغرابة قد لا تكون غموضا تماما, وكذلك التوسع, ويمكن القول إن الغموض مسألة شديدة النسبية, وليست مسألة مطلقة فما تراه غامضا مبهما, قد لا يكون كذلك بالنسبة لي, ولا شك أن الإبداع معني بتغيير كثير من الثوابت, وهو الذي يمنح للغة حيويتها وتجددها وكذلك للأفكار والصور, وكافة الجوانب الأخرى, وأن اتباع نفس القواعد ماهو إلا محاكاة عقيمة لما سبق. وبين يدي ديوان للشاعر المصري المتميز كمال علي مهدي، والذي صدر له متأخرا بشكل نسبي, لكنه ديوان بالطبع سبقته (دواوين), وتاريخ الشاعر معروف ومن خلال ما ينشره في المجلات والجرائد المتعددة, فموهبته ليست محل تساؤل أو شك، وشاعريته لها موقعها بين الشعرية العربية, لكن قارئ الديوان الذي يسعي للتعامل مع مثل هذا الديوان من منطلق نقدي, لابد أن يتوقف عند مفرداته, وأدواته التي استخدمها في تخليق وليده الإبداعي الأول الذي يعد كما قلت إضافة للشعرية العربية. كمال علي مهدي شاعر سبته غواية اللغة واستهوته لعبتها, ويمكن القول إن تلك الغواية سلاح ذو حدين, فإذا ما ملكت زمامها واستطعت أن تفعل بها ما تريد, وأن توجه دفتها حيث تهوى, أما إذا تركت لها الزمام فقد تغريك بلذتها وصليل حروفها وقوة سطوة تصويرها إلى ما لم تكن ترغب, فيكون التراجع صعبا بل يكاد يكون مستحيلا. وبإلقاء نظرة على عنوان الديوان "يوم يكون الراعي", نجده يحتاج هنا الي استخدام تكنيك close لاستكمال العنوان, فيوم يكون الراعي ماذا؟ حزينا, مهموما, لاهيا, ديكتاتورا ....., ولأن العنوان عتبة النص, فإنه هام جدا التوقف بساحته, وبحث كل هذه الاحتمالات وغيرها مما قد لا يكون إلا في حسبان الشاعر, أو ما قد يكون لدى متلقين آخرين, ويمكن أن تسقط علي العنوان كل ما يعن لك لتبدأ القراءة, لكنك قد تعود خائب الرجاء لأن الفرضية التي اقترحتها لم تؤدي إلى النتيجة المتوقعة, فتبدأ من جديد. وبالتوغل إلى باحة "يوم يكون الراعي", تجد أن عناوين القصائد كانت كالتالي "مفردات العيس - إنني آنست نارا – تبارك الرميم - إنا قدرناه منازل - سأجيئ بالجمار – إمرأة في بردية. لتكون معظم العناوين على هذه الشاكلة عدا النزر اليسير منها, كذلك المفردات التي تخللت النصوص كانت: سمهري - جمل – نوق – حاديان – الرمال – العير – القفار – المرابض – الجزور – العيس – نعاج -دلو ....... الخ. ولأن اللغة هي وسيلة الاتصال بين المبدع والمتلقي, سنلاحظ أن المفردات التي راودتنا, مفردات بيئة تراثية صحراوية شديدة الصراحة بلا مواربة, رغم أن الشاعر يحيا المدينة بكل مفرادتها, منذ سنوات طوال, إلا أن الأثر اللغوي لم يمتد إليه حقيقة من التأثير البيئي, لكنه طاله, ثقافيا حيث التهم الشاعر التراث وخاصة الشعر الجاهلي, ولأن هذا ديوانه الأول الذي احتشد له, فكان عليه أن يستعرض كل أبجدياته الثقافية والشعرية – كما فعلنا جميعا في الديوان الأول – لكن المباغة كانت شديدة الإسراف هنا, حتى أن مفردة الجمل ارتسمت في معظم القصائد في إلحاح شديد ولم يكن من الضروري, أن يستخدمه رمزا متكررا بهذا الكثافة عبر قصائد الديوان. شكلت اللغة هاجسا لدى كمال علي مهدي واستدرجته, وكذلك استدرجه التصوير, لكنه لحسن الحظ, إلى فضاءات شعرية رحبة, تجعل من الديوان أمثولة شعرية للجيل الحالي دون مبالغة, لكن ذلك كله كان على حساب المعنى, الذي تشوش وارتبك, نتيجة اعتماد الشاعر التداعي الحر في كتاباته, دون أن يستفزه ذلك إلى التوقف لحظات, لقطع هذا الاسترسال, وإعادة التعاطي مع النصوص ثانية, مما يصنع ضبابية بعض الصور التي تخللت بعض قصائده, وإن كان هناك تساؤل مشروع, هل هناك فرق بين الشعر وأدواته التي هي اللغة والتصوير والموسيقى؟ تتعدد الإجابات, لكن ما أراه أن الشاعر قد آثر اللغة واختار التصوير قبل الموسقة, والموسقة قبل المضمون, وإن كان الشاعر في بعض وقفاته, استعاد التوازن بين مجمل المفردات الجوهرية للكتابة الشعرية, كما في بعض النصوص, علي سبيل المثال: فإياك والأسودين حريمك والنفط وكذلك: لا تترك البحر رهوا وهم يدخلونك من كل فج أقول: نعم سوف أنجو ويقول أيضا: سحيقان هذا الذي يملأ الجب دلو ارتحاله ذاك الذي أيقظ الصيف من غفوة في دروب انتظاره نرى هنا التضاد بين هذا – ذاك, ومراعاة النظير بين: هذا الذي ذاك الذي و يملأ الجب أيقظ الصيف ويمارس الشاعر هواية التناص مع الموروث الديني والشعري في العديد من القصائد مضيفا إليها من شاعريته الكثير. ها أنا ذا "واحد من خلال المدينة يسعي" وقامته "من زمان البكاء بركب الحسين" ومحشوة بالرسل حتى أن تناصه هنا مركب, تداخلت الشخصيات والأزمنة والأحداث وجمعها في سطرين فقط, وعليك أن تستعيد الكون ثانية من خلال رؤى جديدة تماما! ولعبت القوافي الداخلية على تحقق العنصر الموسيقي بشكل أو آخر: قد كنت أغسل تحت ظل السدر أفئدة الحمام ويا لهم عني تنحوا يزعمون أنني نمام وكذلك قوله: وها أنت راع تجوس خيول الخصوبة أو تغتدي فوق عرش البكارة ملتحفا بالطنب أو تنسحب أو تنسكب هكذا, استطاع الشاعر كمال علي مهدي أن يقدم ديوانه الحالة للقارئ المصري والعربي في كل مكان, ليقرأ ديوانا مغايرا يذكر – على تفرده – بالكبار, وخاصة أمل دنقل, وأعيب على المجلس الأعلي للثقافة (الكتاب الأول) الذي صدر من خلاله الكتاب الإخراج الفني للديوان والذي اعتبرته لا يعدو أكثر من تصوير كاريكاتيري للديوان, لم يكن ليتناسب وهذه الشاعرية الكبيرة, وحقيقة لو كنت في موقع الشاعر ما ارتضيت أن اتسلم الديوان, إلا بعد اختيار غلاف يليق, بجدية التجربة وجدتها.