لا أحد يجرؤ على نكران حسنات التراث لكونه عمدة هويتنا الثقافية، ولكونه مصدراً من مصادر الإبداع، منه نستوحي تميزنا الحضاري، ومنه نستمد فرادة التفنن في ثقافة العيش وطبيعة التواصل الإنساني الذي لا حدود لتنوعه، كما يخول لنا فرادة تجسيد معطياته فنيا ضمن قوالب تعمق جماليته وتضفي عليه مزيدا من الرمزية الضاربة في عمق وقلب الثقافة، ونعارض من يحاول وضع قطيعة مع التراث، كما نعارض من يحاول التمسك بكل معطياته بعيدا عن الغربلة والتبصر في الانتقاء. فالتراث إرث حضاري يحمل الكثير من العناصر التي بلغت نضجها رؤية وإبداعا، إلا أن هذا الإرث لن يكون كله مناسبا كمنبع للإبداع، فلكل عصر إبداعه الذي يحمل من عناصر الماضي بقدر ما يحمله من عناصر الجدة والمحاينة. التراث منبع يصل الماضي بالحاضر عبر المبدعين الذين يستندون إليه فيمدهم بخلاصة وزبدة تجارب مبدعين أمثالهم عبروا ثم رحلوا وتركوا إرثهم الإبداعي ثروة قابلة للنمو والتزكية بالتمحيص والإضافة والتجديد، لذا فالتراث فارض لنفسه في عدة زوايا منها الحفاظ على الهوية والبناء على أساس متين، مع التفاعل معه تفاعل الأجداد والآباء مع الأبناء. التراث منبع للأخذ والإلهام، وأساس للحاضر والمستقبل، ووسيلة تأصيل لإبداعاتنا مهما تجددت، حقل قابل للتجديد واستنبات المختلف المواكب للعصر. ومن المعلوم أن العناية والاهتمام بالتراث شهدا طفرة هائلة اليوم أملتها العولمة الساعية إلى إقبار الثقافات والهويات ومحو المميزات الثقافية والاجتماعية للأمم. وإذا كانت السينما في كثير من البلدان العربية وغيرها قد اتجهت للاستفادة من التراث، فقد سبقها إلى ذلك الفن التشكيلي الذي حاول قديما ويحاول الآن أن يجسد التراث عبر أدوات وتقنيات تشكيلية متنوعة. في كل بلد نجد اتجاها خاصا بالإبداع التشكيلي المستفيد من معطيات التراث بتنوعاتها وضروبها المائزة مقارنة بتراث الآخرين. ولأن المبدع عادة يحرص على اقتناص ما يراه قابلاً للقولبة الجمالية والفنية، فإنه يجد ضالته في التراث بأدواته بعمارته وأزيائه. إلا أن التعاطي للإبداع ضمن هذه المعطيات تختلف درجاته وضروبه من مبدع إلى آخر وفيما ذلك نميز بين: من يتمسك بالمحاكاة في نقل مفردات تراثية بما هي عليه من شكل ولون.. ونعتبره أقل إبداعية من غيره أخذا بعين الاعتبار طبيعة الإبداع الحقيقي المجاوز للمحاكاة. من يحاول أن يضيف على المحاكى بما يجعله مختلفا يحمل جمالية وإبداعية إضافية، معتبرا ذلك ضمن غايات الإبداع. إذ يعتبر هذا الأخير استحداثا وابتكارا لشيء جديد، فهو إنتاج لعمل غير مألوف، ضمن شروط وسياقات اجتماعية وذاتية تجعله ذا قيمة من قبل صاحبه ومن قبل المتلقين له. ولا شك أن الإبداع عملية ليست هينة الإنجاز، ويدل على ذلك نسبة المبدعين في كل المجتمعات مقارنة بغيرهم، فخصائص الإبداع تقتضي من المبدع صفات ومواصفات لا يمتلكها غيره. وطبيعته الخاصة تجعله يقتضي التخطيط والتركيب عبر رؤية بها من شخصية وقدرات المبدع ما يعطيها تميزها عن غيرها من الإبداعات، فهو المالك للقدرة على إعادة بناء علاقات في قالب مستحدث مخالف مُبتَكر. من يحاول أن يعبر عن نقائص أو فوائد هذا التراث انطلاقا من استحداث رؤية رامزة إلى ما ينبغي وما لا ينبغي، فتصير اللوحة بمثابة نص يحبذ أو ينتقد جانبا من جوانب التراث. من يحاول بناء لوحته بناء سرياليا يثير الأسئلة ويبعث على التأويلات، والتساؤلات، وبذلك تصير اللوحة مجالا مفتوحا للتواصل والاستغراب والإعجاب وغير ذلك. بين من يجمع بين أكثر من اتجاه وأكثر من تقنية وخامة في العمل الفني الواحد. في كل هذا تجليات لما يشكله التراث من منابع إبداعية غائية تحاول أن تنخرط في المحافظة على التراث وخلخلته بحثا عن الإيجابي فيه لتعزيزه، وعن السلبي لتقزيمه واستكراهه في النفوس. وانطلاقا من مما سبق، يبدو لنا دور الإبداع في إعادة تشكيل المشكل، وإعادة تحيين جمالية الجميل وفق رؤى حداثية اقتضاها تطور العصر. إن التراث الإنساني سيظل رفيق الإنسان في كل زمان ومكان، يفرض نفسه عليه في إبداعاته المختلفة، ونعتبر الفن التشكيلي منخرطا في المحافظة عليه بل في تجديد نظرتنا إليه، ولذا نرى كون التشكيلي الحقيقي من لا يكتفي بالنقل الأمين للتراث، بل هو من يحاول أن يضع بصمة جمالية وغائية في تجسيد ملمحه، ويجعل معطياته تحيل على شيء أعمق من مظهرها وشكلها.