«أنا لا أريد الهجرة إلى أوروبا إلا لأنني لا أشعر بالأمان هنا... في الحقيقة أنا لا أعرف ماذا أريد». هكذا يبدأ رامي حديثه بعد أن يعرّف عن نفسه كلاجئ سوري شاب في لبنان، لينتقل إلى شرح ما يشعر به: «حتى عندما تكون أوراق إقامتك سليمة ونظامية تشعر بالخوف عند كل حاجز للجيش أو للأمن العام. أحياناً أشعر بأن مجرد الخروج من البيت هو مغامرة، حادث بسيط أو عدوى ما يتطلبان دخول المستشفى قد يكونان كارثة على من هو مثلي غريب ومن دون أي ضمان صحي». الحياة تستمر، ومن هم في حالة رامي من اللاجئين السوريين في لبنان، شباب أو غير شباب، كثيرون جداً، لا ينجحون دوماً في تجاوز قلقهم وشعورهم بعدم الأمان. فالمخاوف لا تنتهي، بحسب من تكلموا إلى «الحياة»: قلق على الأهل في سورية، الخوف من حوادث طارئة، مشكلة أوراق الإقامة، التصرفات العنصرية بحق اللاجئين، تأمين مصدر للدخل وضمان استمراره، المستقبل... إلخ. صلاح شاب انتقل من دمشق إلى لبنان قبل سنوات، يجيد الإنكليزية ويحمل شهادة ماجستير في الاقتصاد، ما أهّله ليعمل في منظمة دولية براتب ممتاز بحسب سوق العمل اللبناني، لكن القلق لا يفارقه، فأهله مازالوا في دمشق حيث يتعرضون بين الحين والآخر لقصف بقذائف الهاون، وهو لا يستطيع زيارتهم حتى في الحالات الطارئة بسبب نشاطه المعارض للنظام. وعلى رغم تمتعه بمستوى عيش جيد ومريح يقول: «عملنا يعتمد على المانحين، وأي قرار سياسي أو تغير في الموقف الدولي أو العسكري على الأرض قد يجعلني أخسر عملي دون سابق إنذار». ما يلجأ إليه صلاح أمام هذا الوضع هو إغراق نفسه في العمل لتجنب التفكير والقلق، إذا يعمل ساعات إضافية، ويساعد صديقه في عمله ليملأ كل وقته ويؤمن دخلاً إضافياً، حتى أن «عطلة نهاية الأسبوع تشكل كابوساً»، فهي المجال الأكبر للقلق والأفكار السيئة بسبب وقت الفراغ وعدم الانشغال في عمل ما، «بينما تكون نهايات الأسبوع والعطلات مبهجة لزملائي تكون مقلقة بالنسبة إلي. الشعور بعدم الأمان سرطان نفسي!». من جهتها تنقل صبا خبرتها مع الشباب السوري من خلال عملها ناشطة اجتماعية في بعض مدارس بيروت وضواحيها، فالشابة اللبنانية تعرفت بحكم عملها إلى كثير من الشبان والشابات السوريين الذين يساعدون في توفير بعض النشاطات للتلاميذ في المدارس، ما أدى بمرور الوقت إلى تطور علاقات اجتماعية بينها وبين هؤلاء الشباب التي تصفهم بالطيبين، لكنها تلاحظ أنه «على رغم سهرنا ورقصنا ونمط حياتنا الذي يبدو مفعماً بالحياة والأمل، إلا أن بعض المواقف تكشف هشاشة حالة هؤلاء الأشخاص الذي يصطنعون الفرح أو يختبئون خلف قناع مبتسم ليهربوا من شعورهم الذي يطاردهم بعدم الأمان». عقد مقارنة هو الأسلوب الذي اختارته شذى صديقة صبا وشريكتها في السكن القادمة من حلب لتشرح ما تحس به، فتتكلم عن شقيقها الذي يعيش ويعمل في الإمارات منذ 14 عاماً، حيث كان يتمتع بدخل ممتاز وحياة كريمة رفقة أسرته الصغيرة. إلا أنه قرر من تلقاء نفسه قبل سنة أن يغادر بلد إقامته والسفر وعائلته إلى هولندا وطلب اللجوء، معللاً ما فعله بأنه لا يشعر بالأمان حيث كان، فمن الممكن في ضوء الظروف الحالية أن يخسر عمله دون سابق إنذار ويتعرض للطرد من البلد. قبل سنوات لم تكن هذه مشكلة حقيقية، فالعودة إلى سورية كانت متاحة، وكان يمكن شقيق شذى أن يؤسس عمله الخاص بمدخراته، لكن مع تفاقم سوء الأوضاع لم يعد من مكان يعود إليه المرء، فكان اللجوء إلى هولندا حلاً استباقياً رغم مستوى الحياة الممتاز السابق في الإمارات. تتفهم شذى ما فعله شقيقها، «فنحن كسوريين لا نبحث بالدرجة الأولى عن عمل ممتاز ومستوى معيشة مرتفع أو ما شابه، الأهم هو الشعور بالأمان وبأننا مواطنون نملك حقوقاً في دولةٍ ما حقيقية وآمنة نستطيع أن نؤمن فيها مستقبلاً جيداً لأطفالنا»، وتردف، «إن كان أخي قد شعر بما شعر به في الإمارات، فلكم أن تتخيلوا ما أحس أنا به في لبنان». تترافق ظروف اللاجئين السوريين الصعبة في لبنان مع وضع أمني وسياسي مضطرب ومتقلقل، فالخطاب الطائفي منتشر، والحياة السياسية شبه مجمدة ولا رئيس للجمهورية منذ أكثر من عامين، وتراجع لمستوى الخدمات العامة من كهرباء ومياه ورفع للنفايات... وذلك وضع صعب على الشباب اللبنانيين أنفسهم. وقد يكون جزء من الشباب السوري في لبنان وُضع أمام خيارات صعبة وجملة من القرارات الضرورية والمصيرية التي لم يكن مستعداً لها بعد على نحو كامل، ما دفع بعضهم للإحساس بالضياع وعدم القدرة على تحديد ما يريدون بعض أن قضي على طموحاتهم الأصلية، ومجرد الاستمرار في الحياة بموارد بسيطة وأوضاع هشة فاقم الشعور بعدم الأمان وصار وصول أخبار جيدة داعية إلى التفاؤل نادراً. «نحن متعبون، نحن نجاهد يومياً للاستمرار، نحن ندفع نحو الزاوية ونحشر فيها... تقريباً لا أحد يريدنا أو يحبنا، وغالبية العالم يشتبه فينا، لا أحد يمكنه الاستمرار على هذا النحو»، تقول شابة فضلت عدم الكشف عن اسمها. قدرة الشباب، أيِّ شباب، على الاستمرار واجتراح حلول في نفق مظلم كما هو الحال في بلد كلبنان، تكاد تنعدم لولا بقعة ضوء تلمع من حين إلى آخر فتمنحهم دفعاً ضئيلاً للاستمرار.