في كتاب بعنوان (مدخل الى دوريس ليسينغ) صادر عن دار أزمنة في الأردن كتبه وترجمه عدد من الكتاب هم: علاء أبو زينة، موفق ملكاوي، أحمد خريس، سعاد فركوح، حنان شرايخة، غيداء الفيصل، يقدم هؤلاء الكتاب مجتمعين صورة متكاملة عن حياة دوريس ليسينغ بكل ما فيها من أحداث وتحولات مفرقية، وآراء جريئة لا تتهرب صاحبتها عن الجهر بها، مثل معتقداتها الصوفية وإيمانها بوجود عالم آخر محجوب، واعترافها بأن الزواج ليس الحال المفضل بالنسبة لها، وأنها كانت أكثر سعادة في الأوقات التي لم تكن متزوجة فيها، هذا مع العلم أن ليسينغ تزوجت مرتين، ولها اثنان من الأبناء.ولدت ليسينغ في إيران، من أبوين يحملان ندوب الحرب العالمية الأولى، كانت قارئة شغوفة، وكان بيت أسرتها مليئا بالكتب التي ترسل أمها في طلبها من لندن، لكنها لم تتلق تعليما كاملا في المدرسة، فقد تركت الدراسة وهي في سن الرابعة عشرة، تقول :لم أحظ بأي تعليم مناسب أو مؤهلات، وهكذا كان علي أن أصبح كاتبة.ماذا غير ذلك كان بإمكاني أن أفعل؟.ولعل هذه المعلومة تبدو ضمن أكثر المعلومات إثارة في حياة ليسينغ إذ أنها ضربت بعرض الحائط القوانين الإنكليزية الصارمة عن ضرورة التحصيل العلمي. يُبرز الكتاب أهم أعمال ليسينغ وهي (المفكرة الذهبية) التي اعتبرت مرجعا نسويا مهما كما أن نجاحها فاجأ الكاتبة نفسها، ثم (أطفال العنف)، أيضا هناك(مدينة البوابات الأربع)، و(الإرهابية الطيبة). يقف الكتاب في احدى مقالاته التي ترجمتها حنان شرايخة على وجود تشابه بين فيرجينيا وولف ودوريس ليسينغ من حيث أن كلتا الكاتبتين وضعت الحقيقة إلى جانب الخيال بهدف خلق احساس بالذات، وحسب المقال بأن السيرة الذاتية لفيرجينيا وولف، وقلقها بشأن الذات والكتابة، ومن المحتمل جنونها أيضا، كلها أمور أصبحت إرثا لدوريس ليسينغ، هذا بالإضافة الى أن الكاتبتين تتمتعان بوعي جوهري لتغيير المنظور للحياة، هذا ما تعبر عنه ليسينغ بأنه أشبه ما يكون بتسلق جبل. لكن ليسينغ تبدو غير متعصبة للنسوية رغم اعتبارها عميدة بريطانية للحركة النسوية، إنها تطلب النظر بعين واعية للانسان ككل من دون تحيز تقول :إن أكثر النساء غباءً ورداءة طبع، يمكنها تهميش أكثر الرجال لطفا وعطفا وذكاءً، ولا أحد يمكنه الاحتجاج على ذلك. لعل من أكثر الجوانب الرائعة التي يبرزها الكتاب عن حياة ليسينغ بالإضافة لنزعتها الصوفية، إحساسها بعدمية الأشياء، وامتلاكها لفضيلة الاستغناء، ليسينغ تحكي عن بيتها انها امتلكته من وقت قريب، كما يرد وصف بأنها تعيش كما لو أنها على أهبة الرحيل، فهي تزدري عناصر الأمان التقليدية، ويعود ذلك لإحساسها بأن حياتها أشبه بنبتة اقتلعت من تربتها وغرست في مكان آخر، لقد ظلت تحس بالغربة طوال حياتها، وهي ترى في ذلك شرطا بنيويا في طريقة عيشها وتفكيرها.البعض قد يعيشون ويستكينون بينما ليسينغ لا تمانع بأن تحمل حوائجها وتخيم في الخارج، حتى في داخل منزلها نفسه. أعد مقدمة الكتاب الروائي الياس فركوح، ومما جاء فيها : ليست هناك حياة تستحق أن تعاش وأن تكتب بالوقت نفسه مثل حياة دوريس ليسينغ، وهذا بالضبط ما قامت به هذه الشخصية الاستثنائية، إنها المرأة التي قبضت على مصيرها بيدها، بوعي وإدراك، حاذفة من قاموس حياتها ذاك القدر الاغريقي المتسم به مصائر عديد من حيواتنا المستسلمة لشروط الواقع...لقد اجترحت ليسينغ نموذجا يجبرنا على أن نتوقف حياله، نموذج حياة ونموذج كتابة، ثم نموذجا لطريقة تعميد الحياة بالكتابة وبمائها المقدس والمدنس في آن واحد، وأيضا نموذجا في تطويع الحياة وتكييفها عبر الكتابة عنها من قلب عاصفتها، يكفي أن نذكر لدوريس ليسينغ، المرأة البيضاء في زيمبابوي التي كانت مستعمرة، موقفها الجريء في حسمه وفي إعلانه الرافض لسياسة التمييز العرقي التي اتبعها أبناء جلدتها من البيض، ويكفي أن نلحظ موقفها الرافض للحرب خاصة تلك التي روجت ولا زالت تروج لها وسائل الإعلام الأمريكية. تجدر الإشارة إلى أن قراءة كتاب (مدخل إلى دوريس ليسينغ) يحتاج إلى أكثر من قراءة واحدة، فالكتاب على صغر حجمه 132 ص من القطع الوسط، إلا أن هناك جهداً مبذولا في اختيار المادة واعدادها، يحتاج من القارئ إلى جهد يوازيه في قراءة حياة تلك المرأة المبدعة الحافلة بالأحداث، التأملات، الكتابة، والزهد أيضا.إنها حياة تستحق أن تعاش حقا.