آيا صوفيا، هي أيقونة من أجمل معالم مدينة إسطنبول التي لا تكتمل زيارتها إلا بزيارة هذا المعلم الواقع في القسم الأوروبي من المدينة على مضيق البوسفور. تعرف آيا صوفيا بمعمارها الفريد وتصنف على أنها ثامن عجائب الدنيا. يستمدّ هذا المعلم جماله من طرازه المعماري البزنطي وروعة قبّته وسحر لوحات الفسيفساء والأحجار الملونة التي تزين المداخل والسطح وجدرانه وأبوابه وأعمدته الرخامية ذات اللونين الأبيض والزهري، ومآذنها الأربع العظيمة المرتفعة فوق الجسم الرئيسي للبناء، والتي زادتها جمالا مناطحتها في سماء إسطنبول مآذن الجامع الأزرق. وبالإضافة إلى جمال الهندسة والمعمار، يستمدّ معلم آيا صوفيا، الذي نجا من عدة انهيارات وحرائق وتدمير، أهميته، وخلافا لبقية المعالم المميزة للعاصمة التاريخية للإمبراطورية الرومانية ثم الدولة البيزنطية ثم الإمبراطورية العثمانية، من القصص والأحداث التي عاشها المعلم، بداية من لحظة إنشائه ككنيسة عام 532 م في عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين، الذي أمر ببناء كنيسة صخمة “ليس لها مثيل منذ خلق آدم ولا شبيه في قادم الزمن”. وبعد مرور 15 عاما تم افتتاح المبنى. وبقيت تلك الكنيسة على مدار ألف عام أكبر كنيسة في العالم المسيحي. وفي عام 1453 سقطت القسطنطينية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح، الذي أمر بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد وتم إدخال التحسينات على المبنى المسيحي فأعطته مظهرا إسلاميا. ثم أصبح المسجد معلما تاريخيا، بعد أن حوله مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك في عام 1935 إلى متحف يضم الكنوز الإسلامية والمسيحية. ومنح المزج بين المسيحي والإسلامي طابعا خاصا للمعلم، حيث تزين الجدران كتابات إسلامية، مثل الله، محمد، أبوبكر، عمر، عثمان، إلى جانب صور مريم العذراء وهي تحمل طفلها بين ذراعها، وتتخذ صورة المآذن وسط الطابع المسيحي للبناية رونقا خاصا، وتبدو لوحات الفسيفساء البيزنطية مختلفة وهي تحيط بالمنبر. وظلّت آيا صوفيا على هذه الحال معلما يجلب الآلاف من السياح الذين يحرصون على عدم تفويت الفرصة لزيارة هذا المكان والتقاط الصور في حدائقه. لكن يبدو أن قدر آيا صوفيا أن تظّل محل جدل ونزاع سياسي واجتماعي مع كل مرحلة من مراحل التغيير في تركيا؛ فمع صعود حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى الحكم، انتشرت أحاديث عن نية الحزب الحاكم إعادة المتحف، الواقع في منطقة تزخر بالمعالم الإسلامية، إلى مسجد لأنه يرمز إلى فتح القسطنطينية على يد العثمانيين. الإسلام يحث على حماية الكنائس وبالتالي فلا تفسير لإعادة تحويل آيا صوفيا إلى مسجد غير طموحات أردوغان التي قد تؤدي إلى فتنة أسلمة المجتمع لم يكن الأتراك العلمانيون ذوو الاتجاه الغربي ليحفلوا بأمر الماضي البيزنطي، لكن محاولات حزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى الحكم سنة 2002 لتغيير أسلوب حياتهم ونمط مجتمعهم العلماني بدأت تقلقهم. وكان تحويل آيا صوفيا من بين أكثر المشاريع المطروحة على الساحة منذ ذلك التاريخ. ولئن تراجع حديث العثمانيين الجدد، بقيادة رجب طيب أردوغان، بخصوص آيا صوفيا لفائدة عمليات أخرى لأسلمة المجتمع التركي ومواجهة المظاهر العلمانية الأتاتوركية فيه فقد يتجدّد فتح هذا الملف بعد أن أصبح رئيس الوزراء رئيسا للدولة، وأضحت معالم مشروعه الساعي إلى إعادة إحياء المظاهر العثمانية بكل تفاصيلها في الدولة التركية واضحة. أصبحت القضية أكثر جدية مؤخّرا على خلفية الأحداث التي رافقت الاحتفال بذكرى فتح القسطنطينية (الاسم القديم لإسطنبول). وقد حملت هذه الاحتفالات، خصوصا التي جرت في إسطنبول طابعا خاصا وضخما، وكانت واضحة التلميحات التي جاءت من خلال المسيرة المليونية التي شارك فيها الرئيس رجب طيب أردوغان وبينالي يلديريم، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية. وقد احتشد أنصار العدالة والتنمية على أبواب آيا صوفيا مرددين “أكسروا السلاسل.. افتحوا آيا صوفيا”، وملبين دعوة جمعية شباب الأناضول لتأدية ما أطلق عليه (صلاة الفتح) بمناسبة مرور الذكرى ال563 على فتح القسطنطينية في آيا صوفيا. وقال متابعون إن الحكومة الإسلامية المحافظة تسعى من خلال دعم وإظهار هذه التحركات وما يشابهها، إلى توجيه الرأي العام التركي والعالمي نحو تقبل التغيير الذي تنوي إجراءه على الصرح التاريخي. وفي سياق تأهيل الرأي العام للتغير، تبثّ قناة تركية حكومية برنامجا دينيا يصور داخل آيا صوفيا خلال فترة السحور، طيلة أيام شهر رمضان، يتضمن البرنامج تلاوة قرآن، ودروسا دينية باستضافة علماء ومشايخ، الأمر الذي قوبل بانتقادات المسيحيين، باعتبار أنه يمنع إقامة أي شعيرة دينية مسيحية أو إسلامية في آيا صوفيا. وقد ترددت من قبل مطالبات بإعادة آيا صوفيا إلى مسجد لكنها ظلت محدودة إلى أن صلى الآلاف بالمكان قبل عامين. ومنذ ذلك الحين كلف مفتي تركيا أجمل مؤذني إسطنبول أصواتا برفع الأذان من مبنى بساحته. وكان تصريح بولنت أرينج نائب رئيس الوزراء السابق، في نوفمبر 2013، من أكثر التصريحات المثيرة للجدل والفتنة، منذ ظهور الحديث عن تحويل آيا صوفيا إلى مسجد. وفي خطوة رأى الكثيرون أنها تحمل دلالة، وقف بولنت أرينج نائب في البهو الخارجي لآيا صوفيا وقال إنه “دعا الله أن يبتسم المكان مرة أخرى قريبا” ثم تلا قانونا يمنع استخدام دور العبادة لأغراض أخرى. وردّ عليه، في ذلك الوقت، ميخائيل فاسيلياديس، رئيس تحرير صحيفة «أبويفماتيني» اليونانية ومقرها في إسطنبول قائلا “البعض يرى آيا صوفيا حزينة منذ أكثر من 500 سنة ويريدها أن تصبح كنيسة”. حرب أديان تنتقد اليونان، باعتبارها مهد التراث الأرثوذكسي والبيزنطي، مرارا محاولات تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، مشيرة في أحدث بيان لها على خلفية قرار تركيا السماح بتلاوة القرآن الكريم في المتحف خلال شهر رمضان، إلى أن هذه الخطوة “لا تتماشى وقيم المجتمعات الديمقراطية والمتحضرة وتحترم الحرية الدينية”، وهو ما اعتبرته أيضا بعض الأوساط العلمانية واليسارية بتركيا دعوة إلى”أسلمة الدولة”. يضمن دستور تركيا العلماني حرية العبادة للأتراك من حيث المبدأ، إلا أن العديدين يشتكون من تزايد الأسلمة. ويحذّر المتابعون للشأن التركي من أن مثل هذه التصريحات والمخطّطات من شأنها أن تغذّي الاحتقان الطائفي في تركيا، خصوصا بعد القرارات التي صدرت بمصادرة الكنائس الأثرية الأرمينية في البلاد. يرى أتراك مسيحيون ومسلمون أنه لا حاجة لتحريك مجددا حرب أديان. ويرون من الأفضل أن يبقى هذا المعلم رمزا للتعايش؛ فيما يؤكد آخرون أن الدين الإسلامي حث على حماية الكنائس ودور العبادة المسيحية وبالتالي فلا تفسير للحديث عن إعادة تحويل آيا صوفيا إلى مسجد غير طموحات أردوغان ورغبته في أن يكون اسما بارزا في التاريخ التركي، حتى ولو أدّى ذلك إلى فتنة. وقال أحد تجار منطقة سلطان أحمد ساخرا “هناك الكثير من المساجد هنا ومعظمها فارغة. من سيشغل كل هذه المساجد إذا حولت آيا صوفيا إلى مسجد؟ كما أنه لن يكون هناك سياح”، بينما قال أحمد كوياس، الأستاذ المحاضر في جامعة غلطة سراي في إسطنبول “يعاني البعض للأسف من عقدة النقص ويشعرون بالحاجة لتأكيد وجود الإسلام، لهذا السبب يريدون تحويل آيا صوفيا إلى مسجد وسيكون ذلك ضربة جديدة للنظام العلماني في تركيا”. ويقول الكاتب الصحافي التركي محمد شليك إن “آيا صوفيا لا تمثّل جامعا فقط، بل كانت في الماضي كنيسة للمسيحيين، ثم مسجدا للمسلمين، وأنها ينبغي أن تظل قبلة لمحبي السلام والتسامح في العالم” التسلسل الزمني لمتحف آيا صوفيا 537 و1204: كاتدرائية الكنيسة الكاثوليكية (1204 و 1261) 1261 و1453: كاتدرائية الأرثوذكسية الشرقية 1453 و1931: مسجد الإمبراطورية العثمانية 1931 إلى الآن: متحف