منذ أعوام قليلة، تشهد العاصمة اللبنانيةبيروت حِراكاً سينمائياً يتمثّل بإنتاجٍ وفيرٍ لأفلامٍ روائية طويلة، وأخرى قصيرة ووثائقية، من دون تناسي محاولات جدّيّة مختلفة في مجاليّ ال«فيديو آرت» و«التحريك». بعض الأفلام الروائيّة تلك يُعرض تجارياً، وينجح في استقطاب أعداد وفيرة من المتلقّين، في مقابل أفلام لا يتجاوز عدد مُشاهديها بضع مئات فقط. القصيرة والوثائقية وأفلام التحريك لا تُعرض إلّا في تظاهرات أو مهرجانات سينمائية محلية. الغلبة التجارية قد تكون مُبرَّرة في بلدٍ لا يملك صناعة سينمائية متكاملة، ولا ثقافة سينمائية تتيح للّبنانيين قدرة فكريّة على التمييز بين الغثّ والسمين، أو بين الاستهلاكيّ الذي لا يرقى إلى مستوى بصري مقبول غالباً، وسينمائيّ يمتلك شرطه الإبداعي في اشتغالاته الفنيّة والتقنيّة والدراميّة والجماليّة والأدائيّة. أما مفردة «تجاريّ» فتُلصق وإِنْ بشكل خاطئ أحياناً كثيرة بكلّ عمل ترتفع إيراداته إلى أرقام يراها عاملون في الشأن السينمائي مهمّة وضرورية، في حين أن الجدّي المتماسك سينمائياً، والمشغول بحرفية صناعية متينة يُمكن أن يكون، هو أيضاً، تجارياًّ. تساؤلات التجاريّ اللبناني موغل في التسطيح السينمائيّ البحت، ولا يخرج من مفهوم استهلاكيّ فارغ يمنع على «غير الاستهلاكيّ» فرصة أن يكون تجارياً، أي أن يتوصّل إلى استقطاب مشاهدين يذهبون إلى صالة سينمائية لمشاهدة فيلم لبناني، من دون أحكام مسبقة، كما هو الحال راهناً. الأحكام اللبنانية المسبقة على صناعة الفيلم اللبناني متنوّعة: الغالبية الساحقة من اللبنانيين ترفض «رفضاً قاطعاً» مشاهدة أي فيلم لبناني يُستشفّ أنه معني بمرحلة الحرب الأهلية (1975 - 1990)، أو بنتائجها المختلفة، باستثناء قلّة منهم. الغالبية الساحقة نفسها لا ترغب في أفلام تحرّض على التفكير بشتّى أمور الحياة ومتاهاتها ومنعرجاتها، لاعتيادها على استسهالٍ يبدأ بسعيها إلى مشاهدة إنتاجات تليفزيونية متفرّقة، ولا يقف عند المسرح والكتاب واللوحة وغيرها من أنماط البوح والتعبير الإبداعيين. فالأرقام المذهلة المتمثّلة بأعداد متلقّي أفلام الخفّة والتسطيح والاستسهال في لبنان، تؤكّد هذا كلّه، وتطرح أسئلة تبدأ بالعلاقة المرتبكة بين لبنانيين كثيرين والسينما، وتكاد لا تنتهي عند السياسي والثّقافي والحياتي والاجتماعي والفكري، في بلد مضطرب لم يتوصّل لغاية اليوم إلى حلّ أبرز مشكلاته ومآزقه، وأهمها تلك المتعلّقة بطريقة أو بأخرى بأهوال الحرب الأهلية. بعيداً عن العموميات (الخاصّة بالفرق بين الاستهلاكيّ والنخبوي) الموجودة أيضاً في معظم الدول، ترتفع وتيرة الإنتاجات اللبنانية المختلفة إلى حدّ التناقض أحياناً بين قلّة (قليلة جداً) تمتلك شرطها الفنّي الإبداعي، وكثرة (لا تُحتَمل أحياناً عديدة) استهلاكية مسطّحة وفارغة. ما حصل في نهاية سبتمبر (أيلول) 2015 دليلٌ إضافي على مسائل عديدة مرتبطة بالسؤال السينمائي اللبناني، إذ تمّ اختيار فيلم جماعي أنجزه 7 طلاب جامعيين (طارق قرقماز وزينة مكّي وجاد بيروتي وكريستال أغناديس وسليم الهبر وماريا عبد الكريم وناجي بشارة) بعنوان «وينن؟» (أين هم؟) ل«تمثيل» لبنان في السباق إلى التصفيات النهائية للفوز ب«ترشيح رسمي» ل«أوسكار» هوليوود في فئة أفضل فيلم أجنبي لدورة العام 2016، وهو لا يبلغ مرتبة اشتغالٍ سينمائيٍّ مبنيٍّ على مفردات اللغة البصريّة، لسقوطه الفادح في فخّ البدائية والتسطيح والبكائيات المفرّغة من أدنى هاجس إبداعي مُتعلّق بلغة سينمائية سليمة؛ وذلك على حساب فيلم أرقى وأهمّ وأجمل وأكثر سينمائيةً وأعمق اشتغالاً بصريّاً وأصدق في استخدامه لغة الصورة للقول والتعبير، بعنوان «الوادي» لغسان سلهب. صحيحٌ أن إنتاجهما يعود إلى العام 2014، لكنهما منذ ذاك الوقت وهما يشاركان في مهرجانات سينمائية مختلفة، ويُعرضان أسابيع عديدة في الصالات التجارية اللبنانية. غير أن اختيارهما هنا نابعٌ من قدرتهما على أن يكونا «نموذجاً» واضحاً يؤشّر على معنى العلاقة القائمة بين اللبنانيّ وسينماه المحليّة. مع هذا، لا يُمكن المقارنة بينهما لشدّة الفروقات، بدءاً من أن «وينن؟» يتنقّل فترة طويلة بين مهرجانات منتمية إلى الفئة العاشرة أو إلى احتفالات لبنانية في مدن أوروبية وأسترالية، بينما «الوادي» يُعرض في مهرجانات دولية بعضها منتمٍ إلى الفئات الأولى، ك«تورنتو» و«لوكارنو»، بالإضافة إلى مهرجاني دبي وأبوظبي. مقاربة نقديّة لكن المسألة النقدية تتجاوز هذا كلّه إلى ما هو أهمّ: إلى أي مدى يُلبّي كلّ واحد منهما الشرط السينمائي؟ فعلى الرغم من أهمية المادة المختارة للفيلم الجماعيّ (ملفّ المفقودين والمخطوفين أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، الذين يبلغ عددهم نحو 17 ألف شخص لا يعرف أحدٌ شيئاً عنهم لغاية الآن بشكل رسمي وواضح ومؤكّد)، إلاّ أن المعالجة الدرامية لم تتحرّر من وطأة العادي في مقاربة الشخصيات (أهالي الضحايا) والحالات النفسيّة والتفاصيل الصغيرة والهامشية (الأهمّ أحياناً من المتن) التي تُحرّك أهالي المفقودين والمخطوفين وأقاربهم. في حين أن «الوادي» يُشكّل مزيجاً سينمائياً متماسكاً، شكلاً ومضموناً، في معاينته أحوال رجل خمسينيّ يفقد ذاكرته إثر تعرّضه لحادث سيارة، ويجد نفسه في مزرعة تابعة لصانعي مخدّرات، حيث المسائل تتجاوز هذا إلى ما هو أعمق: معنى فقدان الذاكرة في بلد مقيم في حروبه الدائمة، ومعنى استعادة الذات في أمكنة مُسيّجة بالقهر والألم والضياع، ومعنى الاشتغال البصري الاحترافيّ في مقاربة أحوال الذات والجماعة. لا شكّ في أن «الوادي» يبقى أحد النماذج القليلة التي تعكس مناخاً إبداعياً مختلفاً تماماً عن الاستسهال المتكاثر في «تصنيع» أفلام توصف بأنها «سينمائية»، وفي اختيار مواضيع يُقال إنها أساسية ومهمّة وراهنة، لكن معالجاتها تسقط في الفراغ المدوّي لصناعة صورة بصريّة تعتمد لغة السينما في القول والبوح والمعالجة. وهذا، في مقابل عدد أكبر لأفلام تسقط في اللامعنى، وتُصنع في إطار ربحيّ يتلاءم ومزاج عام لأناس ينفضّون عن حقائق بلدهم وذواتهم، بعد ربع قرن على النهاية المزعومة للحرب الأهلية (13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990). ففي مقابل «الوادي»، وبعيداً عن أدنى مقارنة سينمائية بينه وبين الأعمال الأخرى، «يفرض» مخرجان اثنان نفسيهما في المشهد السينمائي المحلي، ب«إخراجهما» أفلاماً عديدة في الأعوام ال«3» الأخيرة: الأوّل مُقبل من التليفزيون يُدعى إيلي ف. حبيب، يُحقّق «بي. بي.» (2013) و«فيتنامين» (2014). أما الثانية، فآتية إلى السينما من عالم ال «فيديو كليب» واسمها ليال م. راجحة، تُنجز «حبّة لولو» (2013) و«شي يوم لح فلّ» (2015). مخرجان يساهمان في تفعيل نمط استهلاكي بحت، لا علاقة له بالفن السابع، ولا بلغته البصريّة، ولا بمفرداته السينمائية، بل فقط بما يُصيب الغرائز العادية لأناس يسعون إلى تسلية عابرة، لا تفيدهم بشيء، باستثناء تمضية وقت ما في صالة تعرض لهم شيئاً مسلّياً ينسونه سريعاً فور خروجهم منها. أفلام كهذه لا تصنع فعلاً سينمائياً، بل فقط مجرّد حكايات منسوخة عن أعمال أجنبية عربية، مع إضافة لمسة محليّة ما؛ أو مستلهمة من خبريات محليّة، لكنها مصنوعة بتسطيحٍ واضح. ما يُشبه «الوادي»، على مستوى الصناعة السينمائية الروائيّة الطويلة، قليلٌ. الجدّيّة في الاشتغال البصري محاصرة برفض متنوّع الأشكال والاتجاهات: الموزّع وصاحب الصالة، الجمهور، المحطات الإعلامية، الصحافة الفنيّة (علماً بأن بعض الصحافة النقديّة لا تجد في أفلام كهذه ما يستحقّ نقاشها أو التعليق عليها)، أساتذة أكاديميون يُدرّسون في معاهد السينما الخاصّة (وهنا الطامة الكبرى). حصار لا ينفكّ إلّا بعرض متواضع في صالة فَنّ وتجربة وحيدة في بيروت (متروبوليس)، أو عبر مشاركة في مهرجانات وتظاهرات محليّة (وعربيّة ودوليّة). ....... * ناقد سينمائيّ من لبنان