يرى الكاتب العراقي د. عبد الجبار الرفاعي أنَّ الظمأ الأنطولوجي، هو الظمأ للمقدَّس، أو الحنين للوجود، لأنَّه ظمأُ الكينونة البشرية، باعتبار أنَّ وجود الإنسان وجودٌ يحتاج إلى ما يثريه.. وأنَّه كائنٌ متعطِّشٌ على الدوام إلى ما يرتوي به. ذلك ليفصل ما بين دين الإيديولوجيا ودين الأنطولوجيا، باعتبار أنَّ دين الأيديولوجيا يستخدمك ويسخِّر حياتك وطاقاتك ومواهبك لتخدمه في حين أنَّ دين الأنطولوجيا يخدمك إذ يمنح عقلك حرية التفكير. فما دام هناك إنسان على الأرض هناك موت، باعتبار أنَّ الموت هو الحقيقة الوجودية العميقة الصادقة، كما أنَّ الدِين هو الجواب الوحيد لتحدي الموت. يتألَّف الكتاب من سبعة فصول. في الفصل الأوَّل الذي عنونه ب«نسيان الذات» يعتبر المؤلِّف أنَّ الإنسان: يُولد بمفرده، ويحيا بمفرده، ويموت بمفرده، ويتألّم بمفرده، ويشعر بالخطيئة بمفرده، ويستفيق ضميره بمفرده، ويؤمن بمفرده، ويلحد بمفرده. ويجتاحه بمفرده: القلقُ، اليأسُ، والاغتراب، والضجر، والسأم، والألم، والحزن، والغثيان، وفقدان المعنى، وذبول الروح، وانطفاء القلب، والسوداوية، والجنون..إلخ. ولا تبدأ الحياة الإنسانية الحقيقية إلا عندما تتحقَّق وتوجد الذات الشخصية، وهذه الذات لا تتحقَّق من دون الفعل. فالوجود الإنساني لا يصل إلى الامتلاء إلا بالفعل وحده. الذات البشرية وجودها وسيرورتها الحرية، وحيث لا حرية تنطفئُ الذات. والحرية ليست أمراً ناجزاً قبل أن نشرع باستعمالها، فوجودها يعني ممارستها، وهي لا تتحقّق بعيداً عن مسؤولية الفرد تجاه ذاته. فلحظة تنتفي الحرية تنتفي الذات، إذ لا تغتني الذات وتتَّسع وتتكامل إلا بالحرية. كما أشار المؤلِّف إلى أنَّ أخطر أنماط العبوديةِ عبودية العقلِ، إنَّها هي الّتي تُفضي إلى عبودية الروح والعواطف والضمير. فالجبانُ عقلُه مشلولٌ، لا طاقةَ لديهِ للتفكير، ذلك أنَّ التفكير شجاعة، وأحياناً تكون ضريبته موجعة.. وفي بلادنا من يفكِّر بحرية لابدَّ أن يكونَ مُستعداً للتضحية بمقامه وماله وانتمائه لجماعته، بل ربَّما حياته. الفصل الثاني جاء بعنوان: «نسيان الإنسان»، وهو محاولة أولية لكتابة سيرة ذاتية، حيث ولد ونشأ المؤلِّف في قرية جنوبية في العراق لا تنتمي إلى العالم الحديث، وعاش وقائع من البؤس والحرمان في طفولته، وانخرط في عمر مبكِّر في الجماعات الإسلامية، ومن ثمَّ درَس ودرَّس في الحوزة العلمية التي بدأت سنة 1978 واستمرت إلى اليوم. يقول الرفاعي: لا أزعم أني أمتلك ما يكفي من روح المجازفة والمغامرة والشجاعة، لتدوين ما يخدش الحياء، أو ينتهك التابوهات المتجذِّرة في عالمنا، خاصة وأني مازلت منتمياً للحوزة، ومتساكناً مع الإسلاميين بألوانهم واتجاهاتهم كافة، وحريصاً على حماية ذاكرتي المشتركة معهم، وعدم التضحية بعلاقاتي التاريخية، بل أعمل على تعزيزها، وعجزي عن الانفصال والخروج والانشقاق على المحيط الاجتماعي، ذلك أنَّ من يعترف بخطئه في مجتمعاتنا يغامر بفقدان هويته، ويكون الطرد والنفي واللعن مصير كل من ينتقد قبيلته وطائفته وحزبه. الأبعاد الجمالية فعبر البُعد الأنطولوجي كما يقول د. الرفاعي: يمكننا العبور إلى جوهر الدين، وبه يرتوي الظمأ للمقدَّس، وبه نتذوَّق الأبعاد الجمالية فيه، وندرك ما يفيضه الدينُ على مشاعر المتديِّن في عالمنا، من: جمال مع كل ما يتفشَّى فيه من قبح، وضوء مع كل ما يغرق فيه من ظلام، وخير مع كل ما يسوده من شر، وسلام مع كل ما يفترسه من حروب، وحياة مع كل ما يعمُّه من موت. عبر البعد الأنطولوجي للدين يمكننا أن نشعر بأنَه كلَّما طغى الشر لن ينهزم الخير، كلما طغى القبح لن ينهزم الجمال، كلما طغى الظلام لن ينهزم الضوء، كلما طغى صوت الموت لن يصمت صوت الحياة، مادام هناك إله رحمن رحيم غني كريم، ونواميس أخلاق كونية. وحول الإرهاب الذي يعمُّ العالم وخاصة البلدان العربية يتساءل د. الرفاعي: ما الذي يسوق الشباب في الغرب وغيره، ممَّن هم في كفاية معاشية، وبعضهم يعيش ترفاً مادياً، للهجرة إلى ولائم الذبح، وحفلات الرقص على أشلاء الضحايا في بلادنا. والتسابق على الانخراط في وحشية عبثية، تتلذَّذ بالدم المسفوح، وتتهافت على مغامرات مهووسة في العمليات الانتحارية؟. ويجيب الباحث إنَّ ذلك يعود إلى ما يعانونه من ظمأ أنطولوجي للمقدَّس، وبسبب رتابة الحياة، وذبولها وانطفاء المتعة التي تمنحها لهم الملذَّات الحسِّية. وحول الفن وعلاقته بالدين يرى المؤلف أنَّ الفن يرفد حياة الكائن البشري بشيء من المعنى، غير أنه لا يمكن أن يكون بديلاً عن الدين، ذلك أنَّ الفن يلوِّن العالم بالجمال، أما الدين فيخلع هالةَ سحر على العالم، لننخرط في إيقاع موسيقى الوجود اللامتناهية.