الشاعر بهاء جاهين احد الاصوات المتميزة في حقل العامية المصرية، فقد اصدر ديوانا لافتا هو كوفية صوف للشتا عن دار ميريت للنشر. جاء الديوان متجاوزا لنمطية قصيدة النثر العامية الراهنة، ومراوحا بين الشكلين التفعيلي والنثري، فضلا عن تجاوزه لفضاءات كانت ترزح بشكل ما - تحت وطأة الرؤى الاكثر تقليدية، لذلك فهو اي الديوان يتوج مسيرة بهاء جاهين الشعرية ويعد اضافة حقيقية للشعرية الجديدة. ولأن بهاء جاهين لا يجيد نسج العلاقات العنكبوتية فهو واحد من المنسيين بعيدا عن شبكات المصالح، وهو ايضا المطرود من جنة الكبار باسم والده الراحل صلاح جاهين، ولا يذكر اسمه الا مقترنا باسم الرائد الأب، وهو ما يشير اليه بهاء في هذا الحوار، رغم انه استطاع بالفعل ان يغادر عباءة الريادة الى صناعة عالمه الخاص والمتفرد. اصدر بهاء جاهين عددا من الدواوين منها: الرقص في زحمة المرور 1986، القميص المسكون 1990، ايام 1996 عن هيئة قصور الثقافة، ثم مكاشفات شخصية عن نفس الهيئة عام 2000. ويعمل بهاء رئيسا للصفحة الثقافية ليوم الثلاثاء في جريدة الاهرام، وهو خريج كلية الآداب قسم اللغة الانكليزية. وفي هذا الحوار نتوقف مع الشاعر امام تجربة ديوانه الجديد والحالة المدينية التي يثيرها. ويتحدث بهاء هنا عن الخروج الجماعي من قصيدة التفعيلة الى قصيدة النثر، وعن وضع شعر العامية الآن على خارطة المؤسسة الرسمية، وعن ازمة النص السبعيني والثمانيني وعن هموم اخرى نقف عندها. وهنا الحوار: * ديوانك الجديد كوفية صوف للشتا الصادر حديثا يحتفي بالشعرية الفياضة والتركيب الصوري ويحاول نحت طريق جديد رغم عدم تخليه عن جماليات الموروث. كيف حافظت على هذه المزاوجة؟ * لقد ورثت بعض المفاهيم حول الشعرية رغم انني ضد سيطرة المفهوم النقدي على الابداع بعض هذه المفاهيم موروث عن والدي صلاح جاهين لا سيما في فترة توهجه، فترة كتابة قصاقيص ورق والرباعيات، في هذه الفترة كان صلاح جاهين يحاول ان يثبت مع كل قصيدة جديدة ان هذه هي طريقة كتابة الشعر، بمعنى ان كل قصيدة تعبر عن طريق جديد في الشعر، فإذا تأملنا هذه القصائد الفارقة في هذا الديوان سنجد قصائد شديدة الجمال وشديدة الاختلاف ايضا مثل قصيدة سيد درويش، فاخر محمد فاخر، كلام الى يوسف حلمي وقصيدة الى غير ذلك من قصائد. ومع ذلك حاولت الابتعاد قدر الامكان عن الوقوع في اسر النموذج حتى لا اكرر نفسي ولا اكرر احدا، واحاول ايضا الابتعاد عن اي مفهوم نقدي يؤثر على لحظات الكتابة حتى لا تتحول النصوص الى حالات ذهنية كاملة الوعي، وستجد أن بعض القصائد في الديوان تعبر عن حالة التلقائية هذه مثل قصيدة ست الحسن . وما اريد ان اقوله ان الجزء الخلاق في الشاعر ليس هو وعيه النقدي لأن هذا الوعي يمكنه فعلا ان يقتل الشاعر لأنه يضعه في قوالب وأنماط. اما بالنسبة لعلاقة ديواني الجديد بتراثه الشعري فأود اولا ان اذكر كلمة ل تي. إس. اليوت يقول فيها انه لكي يضيف الكاتب الى تراثه لا بد له من ان يهضم هذا التراث، رغم ان اليوت احد الذين غيروا من مسيرة الشعر في العالم، غير ان ما يحدث لدينا هو هروب الشعراء من تراثهم في هلع بالغ، وكأنهم يفرون فرار السليم من الاجرب، والواقع الشعري يؤكد ان الشعر المجيد دائما صاحب انتماء لتراثه بشكل ما، ومن هنا انا احاول ان اظل مخلصا للتراث الذي تربيت عليه في نفس الوقت الذي لا اصادر فيه على نفسي حرية التجديد والقفز للامام. * وكيف ترى قصيدة النثر الراهنة في اطار هذا المفهوم في شكليها العامي والفصيح؟ * شعراء قصيدة النثر يؤخذ عليهم شيء من المدرسية التي تسعى دائما إلى الخضوع للنمط، فالشاعر حريص على ان لا يكون لديه اي مجاز، ولا بد من ان تكون القصيدة عبارة عن قصة الاصدقاء على المقهى، وتلميع الحذاء والتفاصيل التي لا تعني احدا، وهو نموذج ذاع مع الشعراء المقلدين، وهو ما دفع قصيدة النثر إلى السقوط في مدة قصيرة جدا لا تتجاوز العقد وذلك لان النمط الشائع هو الذي سيطر على عقل الشاعر وهو الامر الذي صادر حريته بشكل كبير. اما بالنسبة لشعراء قصيدة النثر العامية فهم يرون ان رائد قصيدة النثر العامية هو صلاح جاهين لا سيما في بعض قصائد قصاقيص ورق التي ذكرتها، وانا اضيف الى اسم صلاح جاهين شاعرا فذا آخر هو فؤاد حداد حيث كتب في وقت مبكر مزجيات بين الوزن والنثر مثل بعض نماذجه في ديوان كلمة مصر والنقش باللاسلكي وضيوف الجنة والكوثر على الطريق الرمضاني، وما اريد قوله ان قصيدة النثر ليست جديدة ولكنها الان ارتبطت بموقف نظري مختلف، هذا الموقف الذي يرفض الرومانسية والغنائية، وهو موقف له جذوره الاجتماعية والسياسية. وانا اذكر لك هنا ان بعض شعراء العامية الذين كتبوا شعرا تفعيليا مثل مجدي الجابري ويسري حسان ومسعود شومان قرروا مجتمعين الا يكتبوا قصيدة التفعيلة ابدا بعد عدد من الاحداث السياسية الكبرى لا سيما ضرب العراق في عام 1990، وكان هذا موقفا في الوقت نفسه من الرومانسية والغنائية بعد انهيار المنظومات القيمية الكبرى. واعتقد ان الذي ساعد على رواج قصيدة النثر خاصة في شعر الفصحى هو دخول قصيدة التفعيلة الى نفق مظلم في السبعينيات والثمانينيات واصبحت قصيدة عصية على الفهم باستثناء بعض الشعراء القليلين مثل عبد المنعم رمضان، حسن طلب، محمد سليمان، ووليد منير، ولكن هناك اغلبية ادونيسية المبدع لديهم اصغر من المنظر، هؤلاء عملوا تحت مفهوم تفجير اللغة وهدمها واعادة بنائها عملا بمثل اعلى فني يعتقد بأن اللغة الشعرية هي هدف في حد ذاتها، ونسوا الوظيفة الاصلية للغة باعتبارها اداة توصيل واستغرقوا في صناعة حلقات لغوية مغلقة فأصبح النص يخص الشاعر وحده، وهنا نسي الشاعر ان الجمال ما هو الا نوع من التوازنات فهناك قوى طاردة وفي نفس الوقت هناك قوى جاذبة، ولديّ صلاح جاهين مثلا لو تأملنا الرباعيات سنجد انها تقف عند هذه التوازنات فهي في الوقت الذي يمكنها ان ترضي اذواق النخبة يمكنها ايضا ان ترضي اذواق الناس. واظن ان خروج الشباب على النص السابق عليهم كان يبدو وكأنه خروج على الارتباط الشرطي الذي جمع بين التفعيلة والنص المركب الذي استحال فهمه فيما بعد. انا لم انظر الى قصيدتي من منظور مديني مطلقا، ولكنني احب القول انني اكتب شعر ابناء المدينة. وبشكل عام فهناك نموذجان لدينا، نموذج الوافد الى المدينة من الريف ويمثله لدينا الشاعر احمد عبد المعطي حجازي في مدينة بلا قلب، ونموذج الشاعر المديني ابن المدينة الذي يأنس بها احيانا ويكرهها احيانا اخرى، وانا لم اعش امراض القادمين من الريف تجاه المدينة، فلم اخش القاهرة ولا اخاف منها ولم اشعر تجاهها بالضآلة والضياع. * ولكني اقصد هنا مدينة الشاعر؟ * مدينة الشاعر في رأيي مدينة شخصية كما كانت لدى احمد حجازي وصلاح جاهين وفؤاد حداد، واظن ان كل الشعراء الموهوبين كل الاشياء لديهم تعبر عن وتتحول الى مذاق شخصي حتى لو ارتبطت بهموم عامة. * وكيف نرى وضع شعر العامية الان ومدى الرعاية الممنوحة له من المؤسسة؟ * اعتقد ان الوضع تجاه شعر العامية الان تغير الى حد كبير فهناك نشر واسع لدواوين شعراء العامية واصبحت هناك جوائز يختص بها شعر العامية، وقد اثبتت العامية جدارتها وانتزعت مكانتها. اما الحديث المستمر عن التعريب والتفصيح فهو لا يعني الكثير لان لغة الشارع في رأيي اكثر تجاوزا لرؤى النخبة. وأنا لا ارى فرقا كبيرا بين العامية والفصحى، الفارق الوحيد ان نهايات الكلمات في العامية يتم تسكينها. * وماذا عن علاقتك بصلاح جاهين الاب، هل افادتك هذه العلاقة ام أضرّتك؟ * افادتني بالطبع فكل ما استطعت الحصول عليه من معارف كان من مكتبته ونماذجي الاولى عرضتها عليه، وكان هو الموجه الاول بالنسبة إليّ، واظن ان كثيرين كانوا يتمنون ان يكون صلاح جاهين معلمهم، وكان جاهين يؤمن بأهمية ان ينقل كل جيل خبرته الى الجيل التالي. ولكن على مستوى آخر هناك عادة موقف عدائي من ابن الفنان الذي يمتهن مهنة أبيه، لان الجماعة تتعامل مع الابن باعتباره مفروضا بإرادة الاب، ومهما كانت موهبة هذا الابن يظل في نظر الناس مفروضا وكأنه ليس اصيلا او غير موهوب. وقد عانيت شخصيا من هذا الامر وكثيرون لا زالوا يتعاملوا معي باعتباري مقلدا لصلاح جاهين وانا اعتقد ان هناك ظلما كبيرا في هذا النظر. فقد تخلصت من معظم الشعر الذي كتبته وشعرت انه متأثر بصلاح جاهين او فؤاد حداد، واظن ان الضرر هنا لا يرتبط بصلاح جاهين، بل هو يرتبط بالكسل العقلي الذي يعشش في الكثير من العقول وكذلك النظر السطحي الذي يدفع الناس لاحالة نصوص الى صلاح جاهين، ومن الطرائف ان بعض الناس يعتقدون انني اقوم برسم كاريكاتور الاهرام الذي كان يقدمه صلاح جاهين بشكل يومي رغم ان الذي حصل على هذه الزاوية هو الفنان ماهر داوود، وذلك لمجرد ان توقيع ماهر داوود اقرب لتوقع صلاح جاهين. * وكيف تنظر الى دور المؤسسة على مستوى النشر واحتضان الادباء والكتاب وما اهمية ذلك؟ انا اظن ان الدولة التي تمثلها المؤسسة الثقافية تقدم خدمات نشر واسعة ولم اسمع عن منع او التعامل مع الادب على اسس ترجع الى مواقف سياسية او ايديولوجية، وقد شعرت بمدى ما نرفل فيه بعد ان شهدت في اسبانيا مثلا حجم المعاناة التي يمكن ان يتعرض لها حتى كبار الكتاب من جراء نشر عمل محدود لهم في احدى دور النشر. واظن ان كثيرين لدينا كان يمكن ان يموتوا لو لم تنشر لهم الدولة فنحن كما تعلم بلد فقير وليس باستطاعة الكاتب فيه ان ينفق على نشر اعماله. اما من حيث هامش الحرية المتاح فأنا اريد ان اسجل انه اذا كان لا بد من وصاية على الحركة الادبية فيما يتعلق بخرق التابوهات فان هذه الوصاية يجب ان تكون من داخل الحركة الادبية وليس من خارجها، هذا بالاضافة الى انه لا بد لنا من الاعتراف بأن بعض النصوص احيانا ما تقع في فجاجة غير مقبولة في التعامل مع المقدسات واحيانا يبدو ذلك في الافراط في استخدامات الاشارات الجنسية وغيرها. * اذا طلبت منك الوقوف امام الاسماء المجايلة التي نراها مؤثرة في حركة العامية المصرية الآن؟ * انا ذاكرتي ليست جيدة كما تعلم وليسامحني من سأنسى اسماءهم من الشعراء الجيدين. واذا كان لا بد لي من ذكر بعض فأذكر محمد كشيك وامين حداد ورجب الصاوي وعمرو حسني ومحمود الحلواني، ويسري حسان، وصادق شرشر، وشاعر جديد اسمه محمود عبد الباسط، وعمر طاهر. * وكيف ترى مشهد قصيدة النثر المكتوبة بالعامية الآن؟ * انا لا ارى فرقا كبيرا بين نثر العامية ونثر الفصحى واعتقد انهما صادران من مدرسة واحدة وهي مدرسة مكتسحة الآن، فمعظم شعراء الاقاليم الان يكتبون ايضا قصيدة النثر، فهي لم تعد ظاهرة مدينية، وهي موضة الآن واظن ان المستقبل سيتجاوز التحزب المذهبي للنثري والتفعيلي الموجود الان، وبالنسبة إليّ شخصيا فأنا أراوح بين الشكلين حتى داخل القصيدة الواحدة، وهي ظاهرة موجودة لدى شعراء من جيلي وكانت موجودة لدى الشعراء الرواد.