في تجربة فنية متميزة ومختلفة، صدر كتاب «زبيدة والوحش» عن الدار المصرية اللبنانية وهي مختارات قصصية للكاتب سعيد الكفراوي، يضم الكتاب المجموعات الست الأولى التي كتبها خلال مشواره الأدبي منذ الستينات وحتى الآن. الكتاب يقع في 552 صفحة من القطع المتوسط، قام بإخراجه وتصميم غلافه ورسم اللوحات المصاحبة للقصص، الفنان عمرو الكفراوي في تجربة بصرية فريدة من نوعها، يقول عنها «قمتُ برسم مجموعة من الرسومات مستلهما عالم القصص، وأيضا مستوحاة من أعمال رسامي جيل الستينات الذين عاصروا أبي، أمثال حامد ندا وسعيد العدوي، وغيرهما». الكتاب الجديد الذي يراوح في ما بين سحر الكلمة وسحر الصورة، يأتي كتجربة خاصة وجديدة تماما في عالم النشر والكتابة، سرديّا وبصريّا، يجمع بين الأب المبدع الراسخ، أحد آباء جيل الستينات، والابن الفنان المثقف المتمرد على الأطر التقليدية، ويقدم للقارئ العربي كتابا جديدا في إخراجه وطرائق عرضه ولوحاته المرسومة خصيصا له والمستلهمة بصريّا من روح نصوصه، ويضمّ بين دفتيه نصوصا قصصية شكلت مع مثيلاتها ونظائرها لكتَّاب القصة من جيل سعيد الكفراوي، تراث جيل الستينات في القصة القصيرة، وهو تراث زاخر ووافر، وقد مثّل بلا شك ثورة حقيقية في مسارات الكتابة القصصية في أدبنا الحديث. سعيد الكفراوي يعدّ واحدا من أبرز أبناء جيل الستينات في مصر، صدر له أكثر من عشر مجموعات قصصية، صنعت له مكانة متميزة في الأفق الإبداعي العربي، وترجمت أعماله إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية والتركية والسويدية والدانماركية. من أشهر المجموعات القصصية التي نشرها عبر مشواره الأدبي: «مدينة الموت الجميل» 1985، و«ستر العورة» 1989، و«سدرة المنتهى» 1990، و«بيت للعابرين»، و«مجرى العيون» 1994، و«دوائر من حنين» 1997. وهي المجموعات الست التي ضمها الكتاب الجديد، وتمثل أبرز وأهم ملامح مشروع سعيد الكفراوي في كتابة القصة القصيرة، التي تفرغ وأخلص لها ولم يكتب غيرها حتى الآن. علاقة الكفراوي بكتابة القصة علاقة فريدة وخاصة في تاريخ الكتابة السردية المعاصرة، فهو واحد من القلائل الذين لم يكتبوا لونا أدبيا غيرها، ولم يقرنوا بينها وبين أيّ نوع أدبي آخر، يقول الكفراوي «أنا قاص قضيتُ عمري كله ناسكا في تلك المساحة التي نطلق عليها محراب القصة القصيرة، وعبر هذا الشكل من السرد كتبت 13 مجموعة قصصية تحمل أسئلة، ومعنى، وتنشغل بجدليات أمضيت عمري كله أبحث عنها، وبالتالي أكتبها على مهل». من هنا تأتي أهمية وفرادة إنتاجه القصصي، وخاصة في مجموعاته الست الأولى التي يضمها الكتاب الجديد «زبيدة والوحش»، وهي التي رسخت اسمه في عالم القصة المعاصرة، وحازت اهتمام النقاد من أجيال مختلفة. قدم سعيد الكفراوي مجموعته الأولى في بداية الثمانينات فلفت انتباه النقاد في تناوله لطرائق من الأداء السردي لم تكن شائعة من قبل، فهدم المركزيات التقليدية مثل مركزية الحدث، أو الراوي، فضلا عن الاكتشافات الأسلوبية التي خلخلت آلية السرد الوصفي واستبدلتها بأساليب تمنح فضاء أكثر رحابة لحضور الذات الساردة لتعلن عن نوازعها وأحلامها وهواجسها. وفي هذا الكتاب الجديد الذي تقدمه الدار المصرية اللبنانية لعشاق القصة القصيرة والفن البصري على السواء، مختارات من أعماله التي كتبها على مدار ما يقرب من أربعة عقود، ومن ثم فهي تجسد مشروعه في السرد القصصي الذي تخصص فيه. الكفراوي من الكتاب الذين يرون أن القصة الجيدة تمنح قراءها متعة مساوية للرواية، وأنها فن صعب لا يقبل التزيد أو الترهلات أو اللغة غير الفنية، فهي فن الكتابة المصقولة، والحقيقة أن كثيرا من قصص سعيد الكفراوي تظل عالقة بالذاكرة نتيجة لاحتشادها بشبكة معقدة من العلاقات السردية قوية الدلالة، ومرتهنة -في نفس الوقت- بالمكان والزمان والشخصيات الحية، فشخصيات سعيد الكفراوي ليست مجرد نماذج بشرية، بل هي منتزعة من واقع تجاربه الشخصية ومشاهداته الثرية. وقصص المجموعات الست التي يضمها الكتاب بتنويعاتها المختلفة وانتقالاتها الفنية تؤكد حرص صاحبها على خوض تجاربه محاولا التوغل في عوالم المكبوت والغرائبي، منطلقا من ميراث القرية المصرية، ومن وعي يختلط فيه الحلم بالكابوس. لكنه وعي لا يتوقف عن التجريب الذي يستبدل مبدأ الرغبة بمبدأ الواقع، كاشفا عن المناطق المعتمة لدوائر الحنين التي يتهددها الموت بأشكال عدّة. تبدو قصص سعيد الكفراوي وكأنها خيط مشدود دائما إلى عالمين، أحدهما قديم يكاد يندثر، والآخر ينهض من تحت ركامه، لكنه مثقل بالخوف والقلق.