كلّما حاولت أن أتبيّن خيطا من خيط، وجدتني في النّهاية وبعد طول حلو ومرّ أخذٍ وردّ، أرسو على جمع أحدهما بالآخر مع إضافة خيط ثالث منّي لتنبجس الضّفيرة.. وهذا ما حصل مع ثنائيّة الإيجاد، الخلق والاختلاق من جهة والعيش والغوص والنّقل المباشر من جهة ثانية في ما يخصّ الكتابة .. بداية، أعرّج على الخلق كلفظة تبعث على التوجّس عند سماعها.. نحسّ معها وكأنّنا نتطاول أو نستولي على ما ليس لنا.. كيف يكون الإنسان قادرا على الخلق وهو مخلوق؟ وهنا أنبّه أنّي لا أعني بالمفردة إيجادا من عدمٍ بقدر ما أريد خروجَ اليد والعين والفكر من العدميّة المقيتة التي تحاصر بشرّها وشيطنتها أرواحا هي بضعةٌ من روح الله الذي خلقها لتحيَى، خروجا أو هجرة لرحابةِ وشساعة الوجود الحيّ المكتمل الجميل الفعليّ .. رؤية حقيقيّة واستدرار معاني صلبة أصيلة تبقى، وبثّ للحياة في موجودات كانت في العتمة بعيدا عن زاوية أنظارنا وصارت مع تدخّلنا مضيئة يستقبلها العقل والحواسّ ليتلقّاها القلب.. ويحيا بمخالطتها وتشكيلها وإعادة تشكيلها فيما يتصوّر .. أمّا بعد، فقد مرّت بي فترة كان الخيال فيها مقيّدا، مجروحا موجوعا يئنّ في صمت دون علم منّي.. حتّى خلتها سمة خُلقتُ بها.. أو إحدى إمكانيّات من بين أخرى تطبع الشّخصيّة فارتأيت الخير حينها في تبنّيها والمضيّ بالإيجابيّ فيها.. فترة كنت غير قادرة فيها على التسرّب أو الإفلات من "الواقع"، عجزا -حسب ما تبيّن لاحقا- لا اختيارا، على الأغلب.. أجْهزَ المعيش فيها على مساحة التفكير، وابتلع ما شاء الله له أن يبتلع.. وما كان له ذلك لولا أنّ مداهمته الأولى كانت على حين غرّة حوّلتها الصّدمة إلى كائن مخدّر يبهتُ الواقفُ أمامها لانتكاس الفطرة والحال "المُشقلبة" وعقارب الساعات المتراقصة بلا أقطاب تدفع أو تجذب ..كان غرقا بالكاد يسمح بالتنفّس.. يحصل معه امتصاص متعنّت ما لمحتوى جمجمتك وأنت تتألّم وتتخبّط ولا تدري مع ذلك ما العمل. ولكنّه أعطى لعمق اليوميّ تاجهُ، فلم يعد قابلا للسّهو أو الازدراء.. جعله عنصرا ثابتا في معادلة الحياة وإن احتاج صيانة ومراجعة للتّسميات و التّوصيفات التي ألصقها به الدّهر .. التقيت في هذه الفترة أشخاصا بررة حقيقيين، أناسا قلوبهم صوامع وسماتهم على الوجه تكفي لتعلم أنهم من أولئك الكادحين إلى ربّهم بكلّ بساطة، بعيدا عن "الأيقونات الجاهزة" .. فكانوا أحد أكبر مصادر الإلهام وكانوا الزهرة التي تعطي للبحث معنى مضافا .. فترة تتعايش فيها مع ذاتك الجرداء المفلسة حسب نوع من المقاييس فلا يصحّ لك إلّا أن تخطّ بين حين وحين كلمات تدوّن خلطة الذّهول والمعمعة العنيدة المتكتّلة.. فتمسك بيديك ما لا يمكن أن تخسره وتصحبك في ذلك الكتابة كتوثيق، كلمّ شمل، كمحاولات فهم واستبيان وتوضيح .. ثمّ جاء يوم تذكّرت فيه أنّ طفلة في العاشرة من عمرها كُنتها وكانت في كلّ عشيّة، تعقد مرفقها بمرفق صديقتها خلال الراحة ما بين الدروس و تذرعان السّاحة جيئة وذهابا إلى حين يرنّ الجرس وفي الأثناء تقصّ الطّفلة على صديقتها حكايا خيالاتها، هذا وقد أعلمتها منذ البداية أنّ تقمّصاتها لا تمتّ للواقع بصلة وأنّ أيّ تشابه فهو عرضيّ غير مقصود كخطوة لا بدّ منها ليرتاح ضميرها و لتُقصي أنصاف الخواطر التي قد تلصق بقصصها أيّ نعت مُكذّب.. والصّديقة تنصت وتستعذب ما تسمع .. برق المشهد في ذهني من زاوية داخليّة وكأنّي أمسك الكاميرا فيظهر كلّ شيء كنت أراه دون أن أظهر أنا، وتداعت الطّفولة مع تداعي ما يحييها من الحاضر حتّى استيقظتُ في يوم وجسستُ نبض الخيال فيّ مجدّدا فوجدته! ورحت أتماثل للشفاء .. فعدت أملك أن أتقمّص وأذهب بعيدا مع فكرة وليدة مُختلَقة.. مخلّقة أو غير مُخلّقة.. فتسقط حرفيّا الجدران والحدود والمسلّمات و نظريّات فلان وتفسير علّان لتُخترع "أزمنة غير هذه الأزمنة.. أمكنة غير هذه الأمكنة.. بشرا غير هؤلاء البشر وقواعد غير التي نحيا بها.." و ما أعذب تلك الهبّات.. ما أعذب الحريّة التي تستنشقها فيها فتعبّئ منها حقائب تعود بها لعالم النّاس بعد ذلك .. الخيال الذي يحبّ الواقعَ وإن ابتعد عنه، وإن غشيه من محاولات تسلّطه وابتلاعه ما غشيه .. و هنا تُعقد الاتّفاقيّات المقبلة على التنمية وترك البصمات وتعود للعالم ألوانه التي دقّت تموّجاتها حتّى صار لكلّ نفسيّة متشعّبة لونها، و تعود للإنسان أحد سلطاته الأولى على الزّمن ومن ورائه الكون.. يجد خريطة كنزه بعد ضياعها ويخطّ بحريّة فلذات منه على ورق وعلى الأجساد والأرواح، على ضوء.. يكتب ويتفنّن على "بصيرة" وعلى مهل ..