في كتاب "قصة الحضارة" يُورد وِل ديورانت قصة طريفة: في العصور الوسطي ثمّ دعاء انتشر بين العامة كرد فعل علي الخطاب الديني المتشدد باسم المسيح، والذي صوّر الرب كطاغية لا همّ له إلا معاقبة البشر. لقد كان الدعاء يقول "يارب.. إن لم تغفر لي فسوف أشكوك إلي أمك". لقد كان الدعاء جدّيا للغاية ودون مسحة تجديف، فمادام المسيح بهذه القسوة التي يتحدث عنها رجال الكهنوت فعلي الأقل يمكن لأمه أن تردِعَه. لقد كان هذا الدعاء مفتتح عبادة السيدة العذراء بدلا من المسيح لدي طائفة من الشعب في ذلك العصر البعيد. صحيح أنها عبادة لم تنتشر كثيرا ولكنها كطُرفة ظلت باقية. ثمة طرفة أيضا يرويها الإسحاقي المنوفي في كتابه "أخبار الأُوَل فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول" عن المصريين في زمن الحاكم بأمر الله. لقد كان الحاكم الأسطوري في جنونه يدّعي أنه الإله، بل إنه أمر بأن يُرفع الدعاء باسمه في الأزهر الشريف. وفي طريق عودته لقصره ذات مرة فوجئ حراسه بخيال مآتة يقطع الطريق ومُعلّق علي ذراعه الخشبية بطاقة من الجلد. حين نزل الحاكم المجنون ليعرف ما الذي يعطّل موكبه سحب البطاقة من يد الحارس وقرأها. لقد كان بالبطاقة بيتان من الشعر يقولان: "بالجور والظلم قد رضينا.. وليس بالكُفر والحماقة.. إن كنت أوتيت عِلم غيبٍ.. بَيّن لنا صاحب البطاقة". يقول الإسحاقي "فلما رآها سكت عن الكلام في الغيبيات"! قد لا تكون تلك الطُرف إلا محض خيال شعبي، سواء اختلقه الناس وتسرّب للكتب (كما في حالة قصة الحضارة) أو اختلقه الكاتب ودسّه في كتابه (كما في الكتب التي نقل عنها الإسحاقي)، قد لا تكون تلك الطرف إلا محض خيال شعبي، وهو الأقرب للحقيقة في ظني، ولكن بفرض أنها كذلك وأنها من خلق المخيلة الشعبية فإن دلالاتها لا يمكن إخطاؤها. لدي المهمشين دائما طُرقهم للتلاعب بالسلطة، لديهم دائما حكاياتهم لتبديد الخيال المعتمد للتاريخ (التاريخ قصة خيالية في نهاية الأمر)، لديهم أدواتهم لإرباك ما في طريقه لأن يتحول إلي ثابت ولخلخلة ما تسعي السلطة لأن يكون مُجمعا عليه. ولهذا فإن هذه الزاوية التي منحها لي الأصدقاء في أخبار الأدب مشكورين، سوف أخصصها فقد صارت ملكي من الآن بوضع اليد للكتابة عن الهامش ولكتابة الهامش أيضا. قد نفتش معا عن هوامش التاريخ غير الرسمي، وقد نكتب للتاريخ الرسمي هوامشه، بل وأزيد علي ذلك إمكانية أن نكتب للتاريخ الشعبي هوامشه (فكثير من قصص التاريخ الشعبي صارت رسمية بحكم الشيوع ولتوظيفها من قبل السلطة أيضا). تلك الزاوية مخصصة من الآن للّعب. للّعب في التاريخ، وفي خيال الناس، وفي الحكايات التي صار لها بحكم الشيوع رائحة اليقين. بداية من كتاب البخاري وليس انتهاء بالعداوة التاريخية مع إسرائيل! تلك الزاوية لا تعترف بأن شيئا مما جرت مناقشته قد قيل فيه القول الأخير. تلك الزاوية لن تدّعي قول القول الأخير في أي وقت. تلك الزاوية قد تنقض غدا ما قالته توا.. وآخر الشرط نور..